فايز أبو عيد/دمشق
31/8/2012
بين بؤس الخدمات وغياب الرقيب والحسيب تنتشر المؤسسات الصحية ذات الطابع الأهلي في مختلف أنحاء مخيم اليرموك، بغية تقديم الإسعافات الأولية والعلاجية لسكان المخيم من فلسطينيين وغيرهم؛ فقدّ أكد صك تأسيسها ضرورة تقديم الخدمة الصحية للاجئين الفلسطينيين بأسعار رمزية، والدليل على ذلك الأسماء التي اتخذتها لأنفسها.
وهنا تبرز تساؤلات لا بدّ من طرحها لتقويم عمل تلك المؤسسات: “هل تؤدي هذه المراكز الدور الخدمي الصحي المرجوّ منها؟ وهل يلتزم أطباؤها المعايير الإنسانية في التعامل مع المرضى؟ وهل كوادرها التمريضية مختصة ومؤهلة ومدربة؟ وهل تتعامل هذه الكوادر مع أبناء جلدتها ومخيمها كما ينبغي التعامل؟ وما هي الأخطاء الطبية؟ وهل هناك محاسبة لمرتكبيها، أم أن الأمر لا يتعدى سوى التأنيب وتعويض المريض بالاعتذار كأقصى حد للتعبير عن الخطأ؟ أخيراً، هل يجد اللاجئ الفلسطيني فيها ضالته المنشودة من اهتمام به وبصحته وبحالته المادية؟”.
واقع صحي لا يبشّر بالخير
تمتد على مساحة مخيم اليرموك مراكز الخدمة الصحية ــ شبه الخاصة ــ إن صح التعبير؛ فهذه المؤسسات تمثّل حالة وسط بين القطاع العام والخاص؛ فهي من حيث الأسعار والمعاينات تقترب من مثيلاتها في القطاع الخاص، أما من حيث الخدمة، فهي إلى المشافي العامة أقرب. ولعل السبب في ذلك أولاً، يعود إلى عدم رضى العاملين فيها بجميع اختصاصاتهم بالأجور الزهيدة التي يتقاضونها. والسبب الآخر يمكن إسناده إلى غياب الإدارة وعدم تأهيل العاملين لديهم وتدريبهم وتحفيزهم وتطوير إمكاناتهم. لكن رغم هذه الأسباب، هل يحق لهذه المؤسسات الصحية التي تدعي أنها تقدم خدمات شبه مجانية، إلى عدم تقديم الخدمات الصحية ذات المستوى الجيد من ناحية التعامل مع المرضى، أو من جهة الأخطاء الطبية المتكررة لديها التي عرّضت بالفعل حياة الكثيرين للخطر، وهنا لسنا في وارد التهجم على مؤسسة صحية بذاتها، فهذا الكلام نابع من المعاناة اليومية للناس؛ فعلى سبيل المثال، أنا نفسي تعرضت للتهديد بوضعي في القائمة السوداء الممنوعة من دخول أحد المشافي، لمجرد أنني انتقدت تقصير أحد العاملين فيها.
من نافل القول أن الصحة عند الناس هي من الأمور غير القابلة للنقاش؛ فسلامتهم وصحّة أجسامهم تمثّل همّاً وهاجساً بالنسبة إليهم، ولهذا فإن أي تقصير أو إهمال يسبب الأذى لهم، سيكون بداية لعدم الوثوق بهذه المشافي، وبالتالي عدم الثقة بالقائمين عليها وهجرها؛ فالتجارب وما جرى ويجري مع الكثيرين من الأشخاص هي الفيصل في أن نطلق الأحكام على هذا المشفى بأنه جيد أو رديء، وما سمعناه ولامسناه في جولتنا الاستطلاعية لا يبشر بالخير؛ فقد روى لنا أحد الأشخاص الذين التقيتهم أنه أخذ ابنه الذي لم يبلغ من العمر سنتين إلى أحد مشافي المخيم، وكان ذلك في نحو الثانية صباحاً والطفل في حالة من الغليان والتشنج والزبد يسيل من فمه، فلما وصل إلى ذلك المشفى، اضطر إلى أن ينتظر أكثر من ربع ساعة ريثما استيقظ الطبيب المناوب من نومه، وعندما عاين الطبيب الطفل أوعز إلى الممرض الذي كان بين الصحو والنوم بأن يعطي الولد إبرة، وبالفعل جلب الممرض الإبرة وأعطاها للولد في العضل، لكن الأب ذهل ولم يدرِ ما يفعل عندما رأى الإبرة قد دخلت بالجلد من جهة وخرجت من الجهة الأخرى للجلد. هنا، لم يتمالك الأب نفسه، وخاصة عندما سمع صرخة ابنه المدوية، فصاح وهاج وطالب بمحاسبة الممرض، لكن ذاك الصراخ كان بلا جدوى؛ لأن الممرض قال له: “افعل ما يحلو لك” وبالعامية (إيدك وما تعطي)، ومن ثم تدخل الطبيب المناوب وأقنع الأب بأن هذا الممرض يعاني حالة نفسية سيئة، ولا نريد أن نقطع رزقه، فانصرف الأب وهو يحمل ابنه بين يديه عاقداً العزم على عدم العودة إلى هذا (المسلخ) على حد تعبيره. أما الحادثة الأخرى، فروتها آمنة (48 عاماً)، وهي ممرضة كانت تعمل في أحد المخابر التابعة لمؤسسة صحية فلسطينية، فعندما سألتها عن حال المشافي وتعامل بعض الأطباء مع المرضى، تنهدت وارتسمت على وجهها علامات الحزن وقالت: “لن أقصّ عليك ما رأيته خلال عملي في هذا المخبر، لكن سأروي لك قصتي وكيف أن خطأ الطبيب أدى إلى حرماني الأولاد”، وعندها دمعت عينها، وتابعت: “لقد ذهبت لعيادة أحد الأطباء بسبب وعكة صحية خفيفة، وعندما فحصني الطبيب بادر بالقول إنني بحاجة إلى عملية جراحية فورية خلال ساعتين لوجود كيس مائي على المبيض، وبالفعل دخلت غرفة العمليات وأجريت العملية، لكن الألم عاد إليّ بعد شهر واحد، فراجعت طبيباً آخر اكتشف أن بطني مليء بالالتصاقات بسبب انفجار الكيس داخل البطن، ما اضطرني مرة أخرى إلى إجراء عمل جراحي أدى إلى حرماني الأطفال”. وتضيف آمنة أنها عندما راجعت طبيباً ثالثاً، قال لها إن حالتها كان من الممكن علاجها دوائياً، وإن قرار العمل الجراحي كان متسرعاً، “فوقعت عندها في صراع نفسي لا يكاد ينفك عني من أصدق وأي منهم كان على صواب”.
تغريد التي ماتت أمها أمام عينيها تكاد الدمعة تنهمر منهما عندما يمر شريط الذكريات المؤلم في مخيلتها، وتقول: “لقد أسعفنا والدتي إلى المشفى لأن لديها ديسك، فباتت هناك مدة شهر بغية تحسين حالتها العامة لإدخالها إلى العمليات. وفعلاً، بعد أن أصبح وضعها العام يسمح بإجراء العمل الجراحي، أجريت لها العملية، إلا أن الطامة الكبرى كانت بعد أيام قليلة عندما دخلت المريضة بإنتان عزاه الطبيب الى سوء تعقيم الأدوات الجراحية التي أجريت بها العملية، ما أدى إلى وفاة المريضة على أثرها.
تطأطئ تغريد رأسها وتصمت قليلاً وتقول بنبرة حادة وعالية إن “هذه المشافي هي عبارة عن مسالخ بشرية لا قيمة للإنسان فيها. هؤلاء أصحاب الضمائر الميتة لا يهمهم أبداً إلا كسب المال”. وتتابع: “من قال إن مهنة الطب هي مهنة إنسانية؟”.
كوادر فنية بحاجة إلى التأهيل والتدريب
اللافت للانتباه أن بعض هذه المشافي ومؤسسات الخدمة الصحية تلجأ إلى توظيف العديد من الكوادر الذين هم بحاجة إلى العمل واكتساب الخبرة، وبالتالي يكون أجرهم أقل بكثير من أجر الطبيب أو الفني المختص؛ فمثلاً، وحسب قول أحد أطباء الإسعاف الذين التقيتهم “إن معظم أطباء الإسعاف غالباً هم من طلاب الدراسات العليا الذين ما زالوا في مرحلة التأهيل للاختصاص، حتى إن القانون يحظر عليهم العمل اثناء هذه الفترة. وللإنصاف، أقول إن هناك أطباء جيدين من الناحية المهنية والمعاملة، وأنا أشبّههم بالبلسم الذي فيه شفاء للمريض، لكن هناك أطباء لا خبرة لديهم ولا معاملة جيدة، فهم كالقضاء المستعجل من خلال تعامله المتعالي مع المريض أو ذويه، فيكون بذلك عامل ضغط إضافي عليهم، ما يفقده اللباس الإنساني لمهنة الطب”. ويضيف الطبيب أن ظاهرة توظيف الأطباء غير المختصين في قسم الإسعاف تمثّل استنزافاً لطاقات الأهل المادية من خلال طلب التحليل والصور المساعدة على تشخيص الحالة، وهي في معظمها غير لازمة للمريض”.
أما بالنسبة إلى طاقم التمريض والفنيين، فقد دأبت بعض المشافي الخاصة على تعيين جزء من الممرضين والفنيين غير ذوي الشهادات العلمية التي نص القانون على توافرها في الكادر، فنجد أن قسماً جيداً منهم درسوا التمريض في دورات دفاع مدني ودورات خاصة لم تتجاوز مدتها ثلاثة أشهر، ويعمد عادة أصحاب المشافي إلى توظيف تلك الشريحة برواتب أقل مما يتقاضاه الفني أو الممرض متخرج وزارة التعليم العالي أو وزارة الصحة. بناءً عليه، إن توظيف هؤلاء يمثّل خطراً على المريض من جهة الأخطاء الممكن أن يقع فيها، فضلاً عن استغلال هذه الشريحة نفسها.
وكما هي الحال بالنسبة إلى الأطباء، فإن الكادر التمريضي ليس بأحسن حال بالنسبة إلى المعاملة؛ ففي الوقت الذي يتحرق به أهل المريض على مصير إصابة المريض، قد نجد الممرض أحياناً غير مهتم أو مكترث لما يجري حوله، وربما لاهياً بجواله أو يلعب الورق على الكمبيوتر. ومن المفارقة بمكان، أننا نسمع أحياناً أصوات ضحك الكادر الطبي أثناء إنعاش توقف قلب مثلاً في قسم الإسعاف، وسبب هذا كله برأيي، غياب الضمير وغياب الرقيب والحسيب.
أخيراً، نختم بالقول إن مهنة الطب مهنة إنسانية أخلاقية علمية اجتماعية اقتصادية قديمة قدم الإنسان، حيث بدأ الألم مع الإنسان منذ خُلق، وبالتالي بدأ يبحث عن الدواء والتداوي ومعالجة الألم. ومن خلال هذه الحقبة الطويلة من التاريخ، اكتسبت هذه المهنة تقاليدها ومواصفتها التي تحتم على من يمارسها أن يحترم الشخصية الإنسانية في جميع الظروف والأحوال، وأن يكون قدوة حسنة في سلوكه ومعاملته، مستقيماً في عمله، محافظاً على أرواح الناس وأعراضهم، رحيماً بهم وباذلاً جهده في خدمتهم، وأن يكون كل عمل طبي أو إجراء تشخيصي أو علاجي يقوم به الكادر الطبي مستهدفاً مصلحة المريض المطلقة، وأن يكون له ضرورة تبرره، وأن يقيد الطاقم الطبي نفسه بكافة الشروط الفنية والمهنية والعلمية لإنجاح هذا العمل الطبي من دون تقصير أو تساهل أو إهمال.
وآخراً، يمكن القول إن طرح ملف دور مؤسسات الخدمات الصحية في مخيم اليرموك وما تعانيه من مشاكل وتقصير وإهمال لا يعني تهجماً على هذه الدور، بل على العكس إنما أردنا من خلال ذلك تسليط الضوء على السلبيات التي تعوق عمل هذه المؤسسات، وبالتالي إيجاد الحلول لدى القائمين على هذه المؤسسات والنهوض بها لتكون بالفعل اسماً على مسمى، هدفها الأول والأخير خدمة اللاجئين الفلسطينيين وتوفير الرعاية الصحية الجيدة، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ولكي لا تتحول هذه المراكز الصحية إلى كابوس يجثم على صدر المرضى.