بيت فلسطين للثقافة > أخبار ثقافية > “دعوني أرتدي عباءة اللجوء” قصة للكاتب فايز أبو عيد
“دعوني أرتدي عباءة اللجوء” قصة للكاتب فايز أبو عيد
2024-11-1064 Views
يستلهم الكاتب “فايز أبو عيد” أفكار قصته “دعوني أرتدي عباءة اللجوء” من حياة لاجئ فلسطيني عاش صراعًا داخليًا قاسيًا بسبب الحرب في سورية.
وبأسلوب السهل الممتنع، يرحل أبو عيد بالقراء إلى وصف تلك اللحظات الصعبة التي تتخطى المبالغة والتمثيل إلى الواقعية المؤثرة والشعورية، وينقلهم إلى أعماق مأساة الفراق والتشرد بين قلب الأم الممزق وحتمية التجنيد.
دعوني أرتدي عباءة اللجوء
اليوم الأسود
كان باسلٌ في تلك الليلةِ مُلقىً على فراشه، لم يكنْ قادراً على النّوم، صوتُ بومةٍ يكسرُ الصّمتَ في الخارج، وفجأةً حطّتْ على نافذة غرفته، أخذت تنظر نحوه بعينيها المُدوّرتين، وأنفِها المعقوفِ، ومنقارِها الحاد.
في صباح اليومِ التالي، قرابة الساعةِ العاشرةِ صباحاً، هناك مَن يطرقُ البابَ
– باسلُ، انظرْ مَن بالباب! صاحت أمُّ سامر.
– حسناً، يا أمّي!
كانت رؤيةُ ذلك الشرطيَّ كفيلةً بذلك البللِ الذي سيكتسح رموشَ أمِّ سامرٍ طوالَ اليوم، الأخُ الكبيرُ لباسلٍ مازال يخِزُ صدرَ أمّه، كلما ذُكر الجيشُ والموتُ والدّمُ، ومع أنّ الحربَ لم تكنْ قد بدأتْ في سورية، فإنّ باسلاً قد بدا مُتوتّراً، وقد أحسَّ أنّ الشرطيَّ صفعه حين سلّمه أمرَ تبليغِه ووقّعه عليه، لم يكن خائفاً من الجيش، إنّما كان يخيفه الحزن الذي سيُسبِّبُهُ لأمّه.
ظلّ أبو سامرٍ ساكتاً في مشهد جنائزي، وسيجارةٌ تحترق بين أنامله، وفي لحظة واحدة انفتق الجرحُ جرحُ أمِّ سامر، مضت إلى غرفة ابنها عامر، مُخدَّرةً، أغلقتِ البابَ بالمفتاح وقد تحيّر الدّمعُ في عينيها، لم تحتضن ولدَها باسلاً في تلك اللحظة، فيما تحرّك باسلٌ مُتمهّلاً، بلا قوّة في جسمه، مُحاولاً أن يترضّاها، نادى وقد زفرَ زفيراً طويلاً:
– أمًي، وأُرتِج عليه، فلم يلفظْ من قولٍ، وآثر أن يُكملَ صامتاً.
التزمت أمُّه الصمت، والهواجسُ في داخلها تتناسلُ كالأرانب، كانت تعتنق صورة ابنها عامر الذي قُتل وهو يخدم في جيش التّحرير الفلسطينيّ قبل بداية الحرب في سوريّا، أخبروها أن رصاصةً أصابتْ رأسَه مباشرةً، تسأل نفسك حتماً:
– مَن الفاعلُ؟!
– ما أسخفَك أيّها المسكينُ!
إذا ما أعرتني سمْعَك قليلاً سأقول:
– لا جواب، وأضيف:
– لا تسألْ فهناك أسئلةٌ كثيرةٌ تُطوى وتُرسل بعيداً مع الرّيح والغيوم.
– أتوقّعُ أنّك فهمْت الآن!
مرّ الوقتُ بطيئاً ودخل الليل، كان باسل في حجرته، يحاول أن ينام، إلا أنّه لم يَغْمَضْ له جفنٌ في تلك الليلة، كان يفكّر في أمّه، يسألُ نفسه:
– ما كانت تستحقُّ مني كل هذه القسوة؟!
يردُّ على نفسه:
– اللعنةُ على….. ويَسكتُ
أراد أن يستسمحَ هذه الأمَّ، إنّها سيّدةٌ في الخمسين من عمرها، كيف لها أن تحتملَ في صدرِها كلَّ هذا الحزنِ.
كان ذلك اليومُ أسودَ، ومُحرِّكاً للكوابيسِ، لم يذقْ خلاله طعمَ النّومِ، كم رغبَ في إلغاء ذلك اليومِ من حياته.
انقضى هذا اليومُ ببؤسه وطلع النهار، كانت الشّمس قد تعلّقت برؤوس الأشجار، وزقزقةُ العصافير قد كسرتِ الصّمتَ الذي تكوّم ليلاً، ها قد أفاق باسل ليُفاجأَ برؤية عينيّ أمِّه مُعلّقتين في وجهه، لتسريَ رَعشةٌ قويّةٌ بجسده، شعرَ بقلبه يخفق سريعاً، ونظر إليها كأنّها المرةُ الأولى التي يُبصر عينيّ أمِّهِ، تبدوان هذه المرّةَ مختلفتين تماماً، لم يقوَ على أن يُطيلَ فيهما النظرَ.
وتوالتِ الأيّامُ يوماً بعد يوم، وأسفر صبحُ اليومِ الموعودِ، كان باسل قد تجهّز ولم يبقَ إلا أنْ يودِّع أمّه وأباه، وقد أيقن أنّه منذ اليوم يبتدئ عهداً جديداً، يداعبه القدر من خلاله ويتلاعب به.
أمُّه واقفةٌ في المطبخ، مشى نحوها واحتواها، كانت عيناها تتوسّلان:
– لا تذهبْ!
وبمنطقٍ واضحٍ، هادىءٍ أجابَ:
– لا حيلةَ في الأمر.
– عليّ أن أذهبَ، كان يتكلَّم بوهَن.
كلُّ شيءٍ انهار في هذه اللحظة، تحطّمَت وتناثرت دموعُها، وأحاطتْ به أذرعٌ لكنّه مع ذلك استجمع قواه مُتجاوزاً حائطَ الجليدِ، مضى وقد خلّف وراءَه انتفاضةَ الدَّمعِ.
في جيش الصحراء
أراد أن يسجّل لحظاتِ الجيش في ذاكرته، إلا أنه توقّف قليلاً، ليس هناك ما يبعث على الكتابة… مجرّدُ صحراءَ تعبث بها الريح، لم يكن يُصدّق ما يراه.
قال لنفسه باشمئزاز:
– ماذا نفعل هنا؟
أرخى أُذنَه للرِّيح، وفجأة سمع أحدَهم يقول:
– هذه الصحراءُ ميّتةٌ.
ردّ بسخرية:
– أرسلونا كي نبعثها من مرقدها.
كانت الصحراءُ في كلّ مكان، وقد شعر بادئ الأمر بالوحشة، إلا أن هذا الشعور بدأ يتبدّل حينما التقى بناصر الرَّجل المجهول.
كان من الطبيعي جدا أن يتعارفا وأن يتصادقا في السجن
– نعم السجن، لا تستغرب!
– وكيف؟!
لم يكد باسل يصلُ إلى مركز التدريب حتى بدأت الأوامر تنهال عليه ورفاقه، التعب كان رفيق دربهم، وفي إحدى الليالي أوى باسل إلى فراشه، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يستطيعه الآن، ومِن حوله أوى الجميع إلى مضاجعهم، إلا أن بعض المجندين كان يرتقب الليل حتى يخرج خارج المعسكر، يعيش بعض لحظات الحرية في القرية المجاورة، الطريق ليس طويلاً والشعورُ بالحرية جميلٌ، قرّر رفيقاه حسينٌ وخالدٌ الخروجَ هذه الليلة، سألاه:
– ما رأيك أن تخرج معنا؟!
تساءل مع نفسه:
– لماذا لا أخرج؟
ردّ بتثاقل:
– ليومٍ آخرَ
– كما تشاء، ليس لك بالطَّيِّب نصيب.
مضت ساعتان، كان يستلقي وعيناه مفتوحتان، شعر أن رفيقيه تأخرا، قرر الخروج، سار على مهل وفجأة شبحٌ يظهر أمامه، ألقى باسل التحيّة دون وعي، كان ضابطاً، سأله:
– أين؟
– إلى الحمَّام.
راح يتفرّسه بنظرات غريبة، ويدور حوله كما يدور الوحش حول فريسته، ثم قال:
– بسرعة.
وقد شرَد باسل عن الجواب، كان مشغولاً، مضى الضابط في حين جلس باسل ينتظر رفيقيه إلى أن ظهرا:
– لماذا تأخرّتما، كان النقيب خليل في المكان.
– راحت عليك الطلعة.
وفي اليوم التالي، قرّر باسل الخروج، كان في اشتياق لسماع صوت أمّه، ما إن أوى الجميع إلى الفراش، حتى تجهّز مع رفيقيه للخروج.
كانت الظلمة تغلّف المكان، تكلّم مع أمه أخيرا، كان سعيدا جدا، ولدى عودته راح صوت بومة يكسر الصمت في المكان، لم يشعر بالارتياح، دخلوا المهجع وإذا بصوت خشن، ونظرات غريبة تقدح شررا، إنه النقيب خليل:
– أوباش.
هذه أول إهانة تصيبه منذ قدومه، كان هذا الضابط يمتلك أكثر من فم، ومع ذلك فقد كان باسل يشعر في هذه اللحظة براحة أكبر، لأنه هاتف والدته.
قضى أسبوعا في السجن، ومع ذلك تحمّله بصبر، تعرّف خلاله على ناصر من مخيم اليرموك، مثقف يرفض السكوت عن الخطأ، ثوري غيّر نظرته لجيش التحرير وما حوله، وهذا ما سبّب له السجن بين الفينة والأخرى، بلى، أذكر مقولة:
– الثقافة بلاء ووبال على المثقفين.
كان السجن بالنسبة لباسل فترة نقاهة، تعلّم فيها مهنة الجلي، كان يحسب سجنه هذا هو الأول والأخير، ولم يدُرْ بخلَده ما يخبّئه له القدر.
كان جو الرّهبة قد زال، وحلّ في المقابل هدوءٌ، سكينة، جو مألوف، لقد تضاءل إحساس الغربة.
مضتْ أيام باسل رغم تطاول الضّباط، وتماديهم بالعقاب الصارم، وقد استطاع خلالها أن يمتلك رصيداً كافياً من الشّتائم والكلمات البذيئة، وصار الآن بوسعه أن يواجه العدو.
لقد أدرك باسل وهو في السجن أن جيش التحرير لم يكن قادراً على تحرير نفسه من لعنة الصحراء التي كان عالقاً فيها، إنه ما زال يتيه في هذه الصحراء أكثر مما تاه بنو إسرائيل في صحراء سيناء.
عاد إلى أهله بعدما استكمل تدريبه، وفُرِز إلى جرمانا، كان يشعر أن كل شيء يبدو كأنه يراه للمرة الأولى، ظنّ أنّ الكابوس انتهى، قضى أسبوعاً رائقاً في أحضان العائلة، وعادت إليه نضارة وجهه، واختفى شحوبه.
كانت الحرب قد اشتعل أُوارها في سوريا، وقد اعتاد باسل أن يأتي ويجيء بين الحسينية وجرمانا حتى ذلك اليوم حينما تعرّض للاختطاف قريباً من بيت أهله، انهالوا عليه ضرباً، وسالت الدماء من شفتيه، كانت الرسالة واضحة، عاد لأهله بعد ثمانية أيام، وقال ببسمة:
براءةُ الأطفال في وجهي جعلتهم يتركونني.
قالت أمّه بهلع:
لم يعد ثَمّة مبررٌ للبقاء.
قررت العائلة إخراجه إلى مخيم الحلوة بلبنان حيث يقيم خاله حسان.
محاولات فاشلة
وقف يجيل النظر حوله، أخذَهُ الشبهُ الذي تراءى له بين مخيم عين الحلوة بلبنان والمخيمات في سورية، سأل نفسه بصمت:
– اللوحةُ عينُها والنقشُ ذاته!
وتابع بسخرية:
– للاجئين الفلسطينيين ذوقٌ واحد!
أسئلةٌ كثيرةٌ أخذت تتدافع على صدره ومع ذلك ظلّ صامتا، كان المطر ينصبُّ انصباباً طوال النهار، والطين حاضر بقوة، وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة، ستسأل حتما:
– متى يبدأ باسلٌ سكّة سفره ويرتدي عباءة اللجوء؟
– هل أنت متلهّفٌ حقّا للسّماع أم تُراك مللْتَ.
سأقولُ بصدقٍ مرّةً واحدةً:
– ما زلتُ أخشى أن أحدّثك عن ذلك السفر، ومع ذلك سأتجرّأ وأبدأ.
وصل إلى بيت خاله ورحّبوا به بحفاوة، كان خالُه حسانُ رجلاً خمسينيا، كهلاً، مناضلا عتيقاً، يعمل اليوم سمكريّا، أكل الزمان عليه وشرب، ووسط الاحتفاء به يرنّ تلفون باسل:
– أمي، كيف حالك!
– يا عين أمك! الشكر لك يا ربي.
وسألت بحنان:
– تعبْتَ يا روحي!
كان صوتها مُلتاعا، يرجف بتأثر عميق، أحسّ باسل بحرج أمام زنقة العواطف المتأججة أمام خاله وعائلته.
صاح خاله مقاطعاً لدى رؤيته وجه باسل المرتبك:
– هذه أختي، لم تتغير، تعمل من الحبَّة قُبّة.
نادى باسلاً أعطني الهاتف:
– أهلا أخي، لا تؤاخذني، قلب الأم.
ظلّت توصي أخاها بابنها، قضوا ليلة ممتعة بصحبة أم سامر في البيت (العش)، وفي اليوم التالي قرر باسل العمل مع خاله، عمل كثيراً، إضافة إلى أعمال إضافية، كان يشعر بواجبات تفرض نفسها عليه تجاه خاله الفقير الذي لم يرزق إلا البنات.
قضى ثلاث سنوات على هذه الحال بين العمل والعش، وقد حُشر في غرفة صغيرة، يخرج بحذر، ظروفُ لبنان أخذت تتأزم، وبدأ طوفان اللاجئين السوريين إلى لبنان يزداد، وفوق ذلك توقّفت السياحة في لبنان، لذا بدأ باسل وأهله يفكّرون في إخراجه من هذا الوسط الملغوم والقابل للانفجار بأي لحظة.
كانت أمّ باسل ترفض سفر ابنها بالبحر، لذلك لجؤوا إلى جواز سفر شبيه، إلا أنه قُبِض عليه، وسُجِن لمدة شهرين، أُخرج على إثرها، كانت تكلفة المحامي باهظة 5000 دولار اضطَّرت أبا سامر إلى بيع أشياء كثيرة، كم كان يخشى أن يُرحَّل إلا أن دعاء والده لم يخبْ هذه المرة.
هاتف باسل والده بعد أسبوع من خروجه من السجن، وقد قرر حسم الموقف:
– لم يعد لي خيار يا أبي سوى البحر.
رد أبوه بتحسّر:
– الخيرةُ فيما اختاره الله!
– المهم ألا تعلم أمي.
لم يطل به الوقت حتى كان يعتلي سطح مركبٍ في طرابلس مُتّجهٍ إلى اليونان ليلا، لكن وللأسف، بعد خمسين مترا، صوتٌ عالٍ:
– خفر السواحل، أوقِف المركب ومَن عليه.
ضاع كلّ أمل تعلّق به في هذه اللحظة، كلُّ العواطف والتوسلات لم تنفع، قضى أسبوعين في السجن وأفرِج عنه، لم يكن قد استسلم بعد، مازال يمتلك في داخله رصيداً كافياً من المحاولات، لذلك حاول مرة أخرى ونُصِب عليه بمبلغ 1200 دولار، وإثر هذه المحاولات والإخفاقات أخذ يحسّ أن القدر يعانده، كان يعيش لحظاتٍ من اليأس والإخفاق.
لاجئون في عين العاصفة:
كان باسل في هذه اللحظة جالساً في غرفته، وفجأةً بابُ البيت يُطرق، خرج الخالُ حسان:
– أهلا بخيّي برهوم، زارتنا البركة.
– مية أهلا بأخي حسان.
– شرّفوا.
ثم نادى:
– خالي باسل، أين أنت؟
خرج باسل صامتاً، وكانت الهموم ماتزال تُلقي بثقلها على صدره.
– خيراً، خال.
– أعرّفك، إنّه العمُ برهوم، شيخُ الصيّادين.
– تشرّفنا عمي.
– أهلا فيك ابن أخوي.
لم يخطرْ ببال باسل أنّ العم برهوماً سيبقى أسيراً في ذاكرته طوال العمر.
– لا تسألْ… ستعرف السببَ قريباً
كان خاله قد اتّفق مع برهوم ليرافقه في سفرته، وفعلاً جرى الاتّفاق على يوم الانطلاق، لكنّك ستحتاج حتما إلى مخيلة قادرة على استيعاب ما حدث في طرابلس في ليلة السّفر، وتشعل النار في داخلك المظلمِ لتتأكد أنّك تعيش لحظةً حقيقيّةً وتفرد أشياءك كيما تشاء.
انطلق برهوم وباسل إلى طرابلس، كان برهوم يعرف المهرب جيّداً، انطلقوا في نحو الساعة الثانية ليلاً على ظهر مركبٍ محشوٍّ بالحالمين، كان المركبُ يسير مخترقاً بعنفٍ جدار الأمواج، مضت قرابة ساعة، وباسل ما يزال يرسل نظره بعيداً، كان صوت البومة مازال يطنُّ في رأسه، إنّها نذير شؤم تلاحقه أينما ذهب، بحث بناظريه عن العم برهوم، كان بجانبه، إنه واقف مع سائق المركب يتحادثان، كان مرتبكاً، عاجله باسل بالسؤال:
– تبدو قلقاً!
– ازدادت سرعة الريح.
– هل تعني أن هناك عاصفةً قادمةً؟
كان على دراية بهذا البحر، يعلم أنه مزاجيٌّ، وفعلاً تخلّى البحر فجأة عن صمته وهدوئه، وصار الركّاب في المركب أشبه بلعبة تتقاذفها الأمواج، كانت عاصفة قلبت كلَّ شيء، بات الجميع يصارع أمواج البحر في معركة خاسرة، وقد بدأت ذبذبات القلوب تتوقف، انتهت المعركة.
حلّ الصباح وعاد البحر مُرخياً أعصابه، كان الشاطئ يعجُّ بالجثث المبعثرة بكل مكان، وجدوا باسلاً، أحدهم يصيح:
– مازال حيّاً… أسرعوا
نُقِل إلى المستشفى، ظلّ نائماّ طوال اليوم، وعندما استفاق، لمح خاله وزوجته أمامه:
– الحمد الله على سلامتك.
– أين أنا؟
حضر الطبيب، وبابتسامة عريضة:
– كيف حال البطل؟
– نشكر الله، ردّ باسل.
خرج باسل بعد يومين من تلقّيه العلاج، وأثناء العودة، سأل خالَه:
– هل أخبرتم أمي؟
– طبعا لا، تريد أن تفتح مناحةً.
– حسناً، فعلتم.
وصلوا إلى البيت، وجلس باسل في فراشه، وهنا سأل باسل:
– ماذا حدث للعم برهوم؟
– هذا ما نريد سؤالك عنه، لم يعثروا عليه، لقد سألنا عنه.
سأله خاله، أخبرني ما الذي حصل، ما الذي حصل معكم؟
– كما أخبرت الشرطة، كان اختباراً سيّئاً فشلنا فيه، نجحت العاصفة في اغتيالنا، كان عليك أن تهجم على أيّ شيء يطفو، حتّى النساء والصغار.
بدأ يرتعش وهو يستعيد كل ما جرى، صرخات النساء والأطفال ما زالت تملأ أذنيه.
وأردف قائلا:
– لقد استطاع البحر أن يصرعنا جميعاً، وبالضربة القاضية
وتمتم:
– كان نذلاً وغدّاراً.
سأل خاله:
– وبرهوم ماذا حدث له؟
صمت باسل لحظة مُنكِّساً رأسَه، وهنا أدرك الكلُّ أنّ برهوم لم ينجُ.
قال باسل:
– لقد أدرك برهوم باكراً أن الهزيمة النكراء ستحيق بنا، وكنت لا أعرف السباحة فقام بربطي بالصاري، كان الإعصار قوياً جرف برهوماً معه.
شعر باسل في هذه اللحظة بتيّار جارفٍ قويٍّ من الحزن يكتسح المكان، وعاصفةٍ من القهر تحيط بخاله.
أشعل الخال سيكارته وتمتم:
– الله يرحمك خيّي برهوم
رجل الصالة
كان هنالك طريق جديد للهجرة إلى روسيا ومنها إلى النرويج، استطاع باسل بعد جُهْدٍ جَاهدٍ أن يتحصّل على جواز السلطةِ الفلسطينيّة، وقد استطاعَ أحد أقاربه إصدارَ تأشيرةٍ له، التكلفةُ المادية كانت كبيرةً، ومع ذلك تمّ الأمر، مضى باسل إلى مطار بيروت، ختم جواز سفره واتجه صَوْب الطائرة، كلُّ ما كان يعنيه أن يركب الطّائرةَ ويرحل بعيداً، ويتجاوز تلك الخيباتِ التي ما زالت تعبث بمسرَّته، مشى بتؤدة، أراد أن يبتسم، ويصيح بأعلى صوته:
– أخيراً انتهتِ اللعنة.
ولكنَّ صوتاً يباغته من ورائه:
– يا أستاذ!
كانت نبرةً قويّةً تحمل في داخلها ذلك الخوف الذي عشّش فيه من قبل، قرر ألا يلتفت، ويكمل سيره إلا أنّ الصوت بدأ يقترب، بدت الخطوات متسارعةً، وفي لحظة يدٌ تقف على كتفه، يومها كاد قلبُ باسل يتوقف عن النبض:
– عفواً!
التفت باسلٌ وراءه، وإذ بشرطيٍّ أمامَه، لقد أحسّ أن قلبه قفز من مكانه، ولكثرة الإخفاقات التي عاشها، بدا له كلُّ صوتٍ قويٍّ هو إنذارَ خطَر، نظر الشرطيُّ إليه، وبكلماتٍ بدت بطيئةً وثقيلة:
– أعتقد أنّك نسيت هذا الكتاب!
لقد جفّ حلق باسل في هذه اللحظة، وكادت أنفاسه المتسارعةُ تخلع قلبه، قال لنفسه:
– اللعينُ قطع نسلي.
وبيدٍ مرتبكة وقلبٍ يتضاعف نبضه:
– شكراً!
بدتْ منه لحظتَها ابتسامةٌ مربَكةٌ، لقد جعل حواسَه في فوضى، أكمل باسل سيره، وفجأة عاد ذلك الصوتُ نفسُه يسأل.
قال باسل لنفسه:
– تُراه عرفني من أنفاسي؟!
شعورُ الخوف كان ملازماً له رَغْم سلامةِ أوراقه، ولعلّ تجاربَه السابقةَ هي التي رسّخت لديه هذا الشعورَ.
كانت نظرةُ الشرطيّ ساخرةً:
هل هناك أحدٌ يقرأ دليلَ الهاتف؟!
بدا سؤاله شبيهاً بتُهمة، أُصيب باسلٌ بصاعقةِ الذُّهول، أراد باسل أن يلطم وجهَه عندما لمح عنوانَ الكتاب، اتهم نفسَه بالغباء، حتى عندما قرّر أن يتظاهر أنّه مثقفٌ بدا مثقفاً غبيّاً.
قال لنفسه:
– حقّاً مَنِ الغبيُّ الذي يحمل دليل هاتف ليتثقف به؟!
كان قد قرر أن يدفع الأنظار عنه، لذلك حمل كتاباً كان بجانب الهاتف في بيت خاله.
زاد توتّر باسل، وفي جميع الحالات كان عاجزاً عن الجواب عنه، لذلك قرر أن يكمل سيرَه، فقد خشي أن يتورّط معه بأسئلة أخرى، لقد حدث كل هذا في دقائق ومع ذلك فقد مرّ الزمن بطيئاً ثقيلاً.
ركب الطائرة، أخيرا سيقلع بعيدا ويرتاح من هذا الجوّ المرعب، كان بجانب النافذة يرقب الأرض، متجها نحو روسيا ومن ثم يقصد النرويج، مضت ساعتان منذ المغادرة، وأخذتِ الطائرة تستعدُّ للهبوط في مطار أتاتورك بإسطنبول.
جلس في صالة الانتظار وبجانبه كوبٌ من القهوة يريح به أعصابَه المستنزفةَ من حوار ذلك الشرطي، وفجأة هاتفُه يرن:
– أين أصبحت؟
إنه والده، كان المطار يعجّ بالمسافرين، لم يكن قادراً أن يسمع جيداً، لذلك مشى بعيداً عن مقعده للحظة، وعندما التفت وراءه، لم يكن يريد أن يتعمّق في فهم ما حدث، لقد سجّل لحظة صمت، وها هو الآن بعد أن تلقّى الضربةَ صار جاهزا للبكاء.
ثَمّة صوتٌ على الطرف الآخر:
– باسل، أين أنت؟
يردّ بطريقةٍ شبيهةٍ بالبكاء.
– سُرقتُ يا أبي!
كانت التاسعة مساء عندما حضر البوليس، باسلٌ في هذه اللحظة بدا مُستسلماً، قد انتابته قشعريرةٌ وحالةٌ من الذعر، ليس مصدرُها سرقةَ حقيبته التي تحوي جوازه وماله، بل خشْيتُه العودةَ منذ البدء.
– ما اسمك، من أين أنت؟
– ها قد دخلنا دوامة الأسئلة، قال لنفسه.
وكالعادة كان بارعاً في الإجابة على أسئلة المحققين، لقد أخبرهم كل شيء إلا أن هذا لم يقدّم ولم يؤخر شيئا لذلك أُعيد إلى بيروت بنفس الطائرة التي أحضرته، وقد تأكد أنه في بيروت بعدما لمح شرطياً يرمقُه من بعيد، وفجأة رآه يتقدّم نحوه، لم يشعر في هذه اللحظة بالخوف على عكس المرّة الماضية، لكنه شعر بالحرج والخجل.
– لماذا!
وقف الشرطي أمامه مبتسماً:
– أكاد لا أصدق، عدت بسرعة!
وأردف:
– أين دليل التلفون؟!
وفجأة التفت الجميع إليه بتهكّم، وبعد أن أشبع فضولهم،
أراد باسل إغاظتهم فأخبرهم أن الأتراك يقولون:
– تشكرات أفنديم على هذا الكتاب القيم!
وأكمل:
– عدت لأحضر نسخة أخرى.
ضحك عليهم في سرِّه، وبعد ذلك جرى التحقيق معه في بيروت، عشراتُ الأسئلة كانت تحفر دماغه، ويبدو أنه لم يعد معنيّا بالإجابة عنها.
بيروت كانت معروفة بأنها بلد الاحتجاجات والمظاهرات والحريات واللاجئين إلا أن بيروت كانت قد مسحت اسمه من سجلاتها وأعلنت تبرأَها منه، لذلك أعيد إلى تركيا كونه لا يحمل جواز سفر، جلس في مطار بيروت ينتظر موعد طائرته، كانت الساعة العاشرة مساء، وفجأة أحدهم يتقدم نحوه:
– بونسوار.
– مساء الزفت، قالها باسل بصمت.
كان هذا الموقف شاذاً ونادراً من عناصر الأمن اللبناني، ولكن إدراكَهم أنه فلسطيني لا حول له ولا قوة في هذه اللحظة، وجدوه لقمةً سائغة، فأرادوا أن يتسلَّوا به ويلوكوه بألسنتهم.
قال الرجل ضاحكاً:
– هذا دليل التلفون، بلّغ سلامنا للأتراك وأخبرهم هناك منه للتصدير ما يكفي.. لا تخافوا!
شرب باسل المقلب بصمت، فهو مدرك أن ما يعيشه هو بحق ملهاةٌ بشريةٌ، أبطالُها أمثالُ هؤلاء المهرجين.
عاد إلى تركيا، وُضِع في غرفة في المطار، بدت قصة باسل في هذه اللحظة تتشابك مع مهران كريمي ناصري.
– ألا تعرفونه، بطل فيلم “مبنى الركاب” (ذا ترمينال)
كانت بالنسبة إلى باسل قصةٌ تبدو خيالية لكنه عاشها بحذافيرها.
– حسنا، سأخبركم بها بدأت المعاناة الحقيقية لـ “ناصري”، في أغسطس 1988، وتحديدًا في مطار شارل ديغول، الذي نزل فيه قاصدًا مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية لندن، إذ إن حقيبة ناصري التي تحوي أوراقه، سُرقت في ذلك اليوم، ورغم وصوله إلى مطار هيثرو، فإنه لم يتمكن من مغادرته بسبب عدم حيازته وثائق تُثبت هويته، فعاد إلى مطار شارل ديغول وبدأ رحلة الثمانية عشر عامًا.
واليوم أخرج لنا القدر كريمي آخر لكنه فلسطيني، كان باسل في هذه اللحظة يخشى أن يلاقي مصير مهران كريمي، طلب الأتراك منه إثبات شخصيته بجواز سفر، إلا أن السفارة الفلسطينية في تركيا كانت بين النائمة والصاحية، وفي النهاية أغلقت الباب وراءها دون أن تقول أي كلمة.
مازال باسل وكريمي يبحثان عن حل، ثلاثة أشهر في المطار، قدّم باسل طلب لجوء فرفض، كان يعاتب نفسه، يصرخ في داخله:
– كل هذا الترقب، وهذا التحايل وهذه المجازفة وهذه المخاطر كلها تضيع بلحظة.
– ماذا تريد مني أيها القدر؟! قالها وقد بدا ضعيفاً مكسوّاً باليأس.
أعلن الإضراب، وكانت النتيجة الترحيل، والمدهش أن جسد باسل قد تقبل الفكرة هذه المرة، لقد طاوعه بفكرة الاستسلام، لم يسرع لإخفائها، لقد بات يتلذذ بمذاق الحزن.
هذه الطمأنينة المباغتة، جعلت مَن معه يستغربونه، لقد استعاد في هذه اللحظة تشي غيفارا وهو يقول للجلاد: أنا أعلم أنك جئت لقتلي أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل سوى رجل.
كان يشعر أن ما بداخله من مخاوف قد تبخرت، ومع ذلك لم يستطع أن ينقل هذا العدوى للقابعين معه في الغرفة، ولم يبد أحد على استعداد للتمادي معه في النقاش.
اللجوء إلى السجن المفتوح
لقد ألقي باسل ورفاقه إلى إدلب، لم يدر باسل ما يفعل، الإحساس بالغربة هو ذاته الذي كان يشعر به وهو في الصحراء، ومع ذلك كان مرتاحا لفكرة أن أمه لا تعلم بأمر ترحيله.
أقام ذلك اليوم على الحدود في كفر كرمين، وفي اليوم التالي قرر المضي إلى إدلب برفقة أحد الأصحاب، تحوّلت إدلب في الآونة الأخيرة إلى سجنٍ كبير أو لنقلْ سلّة مهملات.
قرر باسل التجول في المكان، أراد شراء شريحة جوال لمكالمة أهله، ولدى دخوله محَلّا للجوّالات، وقف صامتا هنيهة، بدأ يتأمله بعينين كبيرتين، كأنه يريد أن يتأكد من صدق الحدث،
فجأة شيءٌ جارفٌ دفعه إلى الوراء، إلى الصحراء، رحلة الغرق في طرابلس.
صرخ بأعلى صوته:
– ناصر! ناصر.
ها هو القدر يلعب لعبته من جديد، لقد رتّب لباسل موعداً لم يتوقعه أبدا في آخر معاقل الحزن.
لا تستغربْ ذلك فليس هناك قانونٌ من قوانين الطبيعة يمنع ذلك.
– يا إلهي، شيءٌ لا يصدق! قال باسل
كان القدر في هذه اللحظة سيّدَ التّهكّم والسخرية، لماذا تغير مشهد الحزن فجأة؟
كان هنالك صوت في داخله يهمس:
– ليس هناك جدوى من محاولة الفهم، عليك أن تتعايش مع الأمر فحسب.
دقائقُ مكتظّةٌ بالعواطف، وأخيرا ضحكةٌ تخرج من بين شفتيه وتفلت من قلبه الذي امتلأ من قبل خوفا وفزعا.
– ناصر، حتما أنت ناصر.
إنه صاحبه في السجن، المرة الأولى التي دخل السجن وظنها المرة الأولى والأخيرة.
وهنا صرخ ناصر:
– باسل
تعانقا، ثم قال ناصر مستغربا:
– ماذا تفعل هنا؟!
وهنا شعر باسل بلسعة الألم في جسده المنهك، كأنها إبرٌ تمر سريعًا من مسامات جلده، وتنفذ إلى صدره، لتستقرّ قريبًا من قلبِه المتعبِ.
– حسناً لا داعيَ لتخبرني، تقاسيمُ وجهك وشتْ بكلّ شيء.
بعد شيء من الصمت:
– يا صديقي، لقد تعثرت بكل حجر أمامي ووقعت بكل الحفر
قال وهو ينهض مبتسماً:
– سنذهب إلى البيت، نتناول الطعام وتخبرني بقصتك.
-هل نذهب؟
هزّ باسل رأسه دون جواب، قائلاً لنفسه:
– ولكن تُرى أين سيذهب بي؟
قام أغلق ناصر محله، وانطلقا، وعندما دخلا البيت، استقبلتهما أم عمر زوجة ناصر، وراحت تسأل زوجها بالهمس والإشارة، فيردُّ:
– إنه باسل، فلسطيني من أهلنا وناسنا.
– أهلا وسهلاً! تشرّفنا!
تناولوا الطعام، وعرف باسل أن ناصراً اضطُر إلى ترك مخيم اليرموك والنزوح إلى الشمال بعد اقتحام المخيم، وأثناء تناول الشاي، سأله ناصر:
– حدثني من طق طق للسلام عليكم، كيف جئت هنا؟
كان قد وضع يده على وجع مازال يبدو طازجاً، وأعاد له الشريط إلى الوراء، كرّه ببطء مستخدماً تقنية الفلاش باك.
بات باسل ليلته في ضيافة ناصر، وفي اليوم التالي توجّه إلى رفاقه في قرية كفر كرمين الحدودية، لم يعد باسل يهتمّ بالسفر، قرر البقاء في إدلب، أحسّ لأول مرة أن هناك أناساً يتشاركون معه المعاناة، بدأ يعمل ناشطاً في العمل الإغاثي في القرية، بدأ يستعيد نشاطه، قرر أن يتزوج إلا أن القدر كان يرسم لباسل نهاية أخرى، باسل كان يقود دراجته النارية ووراءه صديقه وإذ بطائرة تضرب المكان، سقط باسل وصديقه عن الدراجة، أصابت الشظايا باسلاً وارتمى على الأرض، كانت هنالك حمامة واقفةٌ على شجرة زيتون تحمل غصناً، نظر إليها، لم يعد يرى تلك البومة، قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مبتسماً:
– أخيراً! انتهت رحلتي هنا.
شيّع الناس الشهيد باسلاً بموكب كبير يشهد على مدى الحب لهذا الشاب النبيل، مات وقد قدّم طلب لجوء عاطفياً هنا في إدلب، حقا إن حياة بعض الناس هي مسرحية عبثية!!!!!!!!!