فايز أبو عيد – دنيا الوطن
ولد على خاصرة البحر. جمع ملحه في طفولته خبأ حصاه في جيب سرواله القصير وفي ربيعه السابع خرج ليتوضأ بالضوء في ساحة قريته القابعة على تلة تتنسم البحر.. وهناك مر به شابان يمتطيان جواد الحرب ألقيا عليه تحية الصباح علقا أسم فلسطين على صدره ومضيا تحسسها شعر بقشعريرة تتخلل جسده الصغير، ركض خلفهما حاول فك لغز الجهات على خطوات جواديهما سحبته أمه من فوضاه الصغيرة أرخت له ساعديها سريراً، غفا على حلم دام صاح فيه على أطفال حفاة. إي تعالوا. لكنهم تابعوا الركض على جسده بأقدامهم الصغيرة المتهرئة على الدم، استيقظ فزعاً رأى أمه مكورة في زاوية الغرفة كوردة ذابلة، نظرت إليه وهمست بصوتها المبحوح: “سقطت فلسطين”.
علقت في حلقه غصة، غصة تحولت إلى سقم قشر ظله الأخضر على أصابع الأنين لم يع وقتها معنى هذا السقوط، كان السقوط لديه يعني الوقوع عن شجرة البرتقال الجاثمة على التلة القريبة كالقبعة وقوع طفل شقي خائف من صراخ الفلاح العجوز لكن ذلك السقوط لم يسمع بعده إلا بكاء الأرض ودمعتان من طين استقرتا في كفيه الصغيرين، فأنبتتا شجرة اللعنة تذوقها أولاً صوته الصحفي حيث رأى ظل المعرفة قصيراً، تذوق أكثر فأدهشته ثمرة المسرح، شرحها
على منضدته الصغيرة قرأ فيها أصوات الخائفين، واشتم رائحة الدم الصاعد من أكفهم، فتح ستارة ،أعلن متابعة المسيرة في طريق المسرح العربي، قرأ تجربته الثانية بوعي ملحوظ بعد أن كان السيد “أبو خليل القباني” قد أشرع المرحلة الأولى للمسرح العربي أعلن المرحلة الثانية بعد مسرحية “الناس يلي فوق والناس يلي تحت” للكاتب المصري نعمان عاشور وتجربة سعد الدين وهبة عميد المسرح العربي كتب رائعته “حفلة من أجل 5 حزيران “عام 1968 ،التي جعل فيها الممثل خارجاً من تعاليم أرسطو كاسراً الجدار بين الممثل والمشاهد مستفيداً من تجربة بريخت، حيث أعطى للمشاهد فيها دوراً يصعد به إلى رؤية حوارية توصله إلى ما يريد وما يفكر، وكان قبلها قد بدأ كتابته المسرحية في مجموعة “مأساة بائع الهريسة الفقير “و”حكايا جوقة التمثيل” ،وهكذا فقد قسم مسرح سعد الله ونوس إلى ثلاث مراحل وهي “مرحلة ما قبل النكسة ومرحلة النكسة وما بعدها ومرحلة المرض “
ومن ثم كتب مسرحيته “الفيل يا ملك الزمان “التي فضح فيها خنوع الجماهير أمام الديكتاتورية مستفيداً من حكايا ألف ليلة وليلة، وقدم كذلك مسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني “التي أوجد فيها الحكواتي بدل الجوقة في المسرح الإغريقي
هكذا استطاع سعد الله ونوس نقل المسرح إلى طور الإبداع والخلق والتجديد، حيث لم يكن يوجد في مسرحه كواليس أو ستار، بل كان يركب المشهد أمام الجمهور ليشرع المحاكمة العقلية للمسرح.
بعدها قدم مسرحية “الملك هو الملك “التي عرضت على خشبة الكثير من المسارح في الوطن العربي، ومنها المسرح المصري حيث قام بإخراجها المخرج المصري” مراد منير “،ولعب دور البطولة فيها الفنان صلاح السعدني ،وكتب كلمات الأغنيات فيها الشاعر المصري الكبير” أحمد فؤاد نجم “،وكانت من غناء المطرب” محمد منير” ،وهنا أيضاً استفاد سعد الله ونوس من التاريخ ليرسم إسقاطاً عبقرياً على الواقع العربي المعاش ،إسقاط ونوس كان لا يقف عند وضع إصبعه على الجرح، بل كان يعتمد نكئ الجرح وطرح الأسئلة التي نقلت المسرح إلى حالة الوعي والتفكير وليس فقط التسلية والترفيه .
جاءت بعد ذلك فترة صمت فيها سعد الله ونوس عن كتابة المسرح، ولكنه لم يقف عن العمل فكان يعمل في الملحق الثقافي في جريدة السفير اللبنانية ،وعمل رئيس تحرير مجلة الحياة المسرحية التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة السورية وفي مجلة المعرفة السورية ،والتقى بالمخرج السوري فواز الساجر وقدم معه المسرح التجريبي ، فقدما مسرحية “يوميات مجنون “لغوغل كمسرحية مونودراما، وأعد مسرحية” رحلة حنظله من الغفلة إلى اليقظة “للكاتب الألماني بيتر فايس عن نص بعنوان “كيف يتم تخليص السيد موكينبوت من آلامه”، وأصدر كتابه عن المسرح “بيانات لمسرح عربي جديد ” وأقام عدداً من الحوارات مع كتاب غربيين كبار مثل الكاتب الفرنسي “جان جينيه” ،وقد نشر هذا اللقاء في مجلة الكرمل الفلسطينية عام 1982 والتي كانت اثر زيارة لجان جينيه إلى المخيمات الفلسطينية في الوطن العربي .
وفي عام 1990 كتب سعد الله ونوس مسرحية “الاغتصاب “التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والمسرحية في الوطن العربي، وقدمها للمسرح المخرج العراقي “جواد الأسدي” ولكنها لم تقدم كاملة بسبب ما حملته تلك المسرحية من نبوءة واضحة وعبقرية حول الصراع العربي الإسرائيلي وطرح السلام في المنطقة العربية.
أما في عام 1992فقد دخل سعدا لله ونوس مرحلته الثالثة، مرحلة المرض التي دامت خمس سنوات ،لكن سعد الله قدم في هذه الفترة أجمل ما كتبه للمسرح العربي ومنه مسرحية” منمنمات تاريخية “التي تحدث فيها عن دور المثقف العربي تجاه التحديات التي تتدافع في المنطقة العربية ،ثم كتب مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات” وهي من إخراج المخرجة اللبنانية “نضال الأشقر” ،حيث أراد سعد الله ونوس أن يترجم الشهوة الحارقة للخروج على المألوف وتحول الحياة إلى حياة صارخة دون خوف أو خجل .المسرحية طرحت موضوع الهزيمة الشاملة من كل جوانبها ،هزيمة “أنظمة “ومؤسسات واتجاهات .أراد سعد الله ونوس أن يقول في نصه إن الكل مسؤول والكل مدان ، لذلك قوبل العرض بإعجاب جماهيري واهتمام إعلامي واضح وكبير لأته نكأ الجرح ولامس عدداً كبيراً من الناس في صميمهم . بعد ذلك كتب مسرحية” يوم في زماننا “التي قدمت على خشبة مسرح القباني في دمشق، حيث أراد ونوس أن يقول فيها “ما أشد وحشة هذا العالم “
هذه واحدة من الجمل الأخيرة التي دلت على الرؤية الثاقبة للواقع العربي ،والتي قدمها من خلال رؤيته للواقع العربي في مسرحيته “ملحمة السراب” التي تحدث فيها عن الزرقاء المتنبئة بالحرب عند العرب ،وقدم فيها رؤية حول دخول رؤوس أموال أولئك الذين يحاولون اغتيال الحياة بشتى الوسائل لتحقيق رغباتهم ،قدم بعد ذلك نصه الرائع “عن الذاكرة والموت ” والذي يعد من أجمل النصوص العربية والعالمية التي تتحدث عن مرحلة الموت ،ثم ختم مرحلته العبقرية في مسرحية “الأيام المخمورة “التي سكب عليها دمه لتسكر به شفاه الموت بعدها لملم سعد الله أشياءه الصغيرة وتلحف بالموت معلناً انسحابه مع ذكرى الاغتصاب في 15/أيار /1997/ وكأنه بهذا يصرخ صرخته الأخيرة المليئة بالتحدي والألم ،غيب الموت فيلسوف الفقراء والمضطهدين الذي مشى على ماء أحلامهم وذكرّهم دائماً أن السماء لا تمطر ذهباً, ومشى على درب جلجلته بصمت، ولكن دوي كلماته أسمع الدنيا وما فيها .رحل سعد الله ونوس وحده تاركاً لنا تراثاً مسرحياً عبقرياً وصوتاً عميقاً يأتينا من جهة النصر .