في شوارع حي المطار بمدينة درعا التي مزقتها الحرب، تقف الأنقاض المتداعية لمنزل كان ينتمي ذات يوم لعائلة السرحان الفلسطينية كشاهد صامت على حقبة مضت، وهو مبنى أرضي على شكل فيلا وأمامها قطعة أرض صغيرة، لم يكن هذا منزلاً عاديًا – فقد كان يضم “صوت الثورة الفلسطينية”، وهي محطة إذاعية أصبحت منارة أمل للفلسطينيين والثوار السوريين في السبعينيات.
واليوم، لا يزال إرثها حيًا في ذكريات فلسطينيي حي المطار بمدينة درعا وباقي المناطق في المحافظة، الذين يتوقون إلى إحياء أناشيدها المتحدية واستعادة جزء من ماضيهم الثوري.
منارة ثورية
تأسست “صوت الثورة” في أوائل السبعينيات، خلال ذروة النضال الفلسطيني المسلح، لتكون أداة حاسمة في التعبئة والإلهام، وفقًا للكاتب والشاعر الفلسطيني راسم المدهون، أحد مؤسسي الإذاعة، جاء قرار إنشاء المحطة بعد خروج الفدائيين الفلسطينيين من الأردن تحت مظلة الجامعة العربية، تم اختيار مدينة درعا، وبالتحديد حي المطار القريب من الحدود الأردنية، ليكون مركز البث نظرًا لموقعه الاستراتيجي القريب من الأرض المحتلة.
كانت الإذاعة تبث من منزل متواضع في الحي القديم بدرعا، وكانت رسالتها تتجاوز مجرد الكلمات والأغاني؛ كانت تبث روح الثورة والنضال، يقول المدهون: “لم يكن الجمهور يستمع إلى إذاعة فقط، بل كان يستمع إلى ثورة”، وكان الاعتقاد الشائع أن الإذاعة تبث من داخل فلسطين ومن أحد الخنادق، نظرًا لقربها الجغرافي ورسالتها الملهمة.
القمع والتدمير
مع تشديد النظام السوري قبضته على المعارضة في أواخر السبعينيات، بدأت السلطات السورية في النظر إلى التعبئة الفلسطينية المستقلة كتهديد مباشر لنفوذها، وفي خطوة قمعية، داهمت المخابرات السورية وبإيعازٍ من الرئيس السوري حينها حافظ الأسد مقر الإذاعة عام 1978، واعتقلت العاملين فيها واقتادتهم إلى سجن المزة العسكري في دمشق، ودمرت المبنى وصادرت المعدات، بما في ذلك جهاز البث الاحتياطي الذي كان هدية من الصين الشعبية.
بعد عقود، تعرض المنزل مرة أخرى للمداهمة والقمع عام 2011، حيث اعتُقل مجاهد ابن أبو سرحان، أحد سكان المنزل، ليصبح واحدًا من آلاف المفقودين والمعتقلين في سجن صيدنايا أحد سجون النظام السوري البائد، بالنسبة للفلسطينيين في حي المطار بدرعا وخارجه، لم تكن غارة المخابرات مجرد خسارة لمحطة إذاعية، بل كانت ضربة لهويتهم الثقافية والسياسية، إذ كانت إذاعة درعا قاعدة ثورية متقدمة وملتقى لقادة الوحدات والكتائب الفدائية المنتشرة في المنطقة، إلى ما قبل حرب تشرين أكتوبر بأيام معدودات.
الأنقاض والذكريات
بعد سنوات من الحرب، تحول المنزل إلى أنقاض وخراب، لكنه ظل رمزًا حيًا في ذاكرة كبار السن مثل اللاجئ الفلسطيني أبو سرحان الذي تعود جذوره إلى قرية الظاهرية قضاء مدينة الخليل في فلسطين، والذي نشأ في بيت الإذاعة وعاش مرحلة شبابه وكهولته.
يقول أبو سرحان: سيظل هذا الموقع مقدسًا، فقد كنا نجتمع هنا كل ليلة، ونستمع إلى الراديو وكأنه نبض قلب، كانت تلك الأغاني تجعلنا نشعر بأننا لا نقهر”.
مردفاً الأجيال الأصغر، رغم عدم معاصرتها لتلك الفترة، إلا أنها تتحدث عن المحطة بأسطورية مستوحاة من قصص شجاعتها.
إحياء الأناشيد
يعيش في حي المطار بدرعا مئات العائلات الفلسطينية التي نزحت إليه من مخيم درعا القريب من الحي، ومن باقي مناطق سوريا في بداية الثورة السورية 2011، ومن هذه العائلات، الحسن، السرحان، الخليلي، النابلسي، أبو عطا، واليوم بعد تحرر سوريا من نظام الأسد، هناك جهد شعبي لإحياء إرث “صوت الثورة” حيث مجموعات ثقافية في درعا وخارجها على رقمنة التسجيلات القديمة لأناشيد الإذاعة ومشاركتها عبر الإنترنت كجزء من مشروع مقاومة ثقافية.
تقول ليلى الحسن وهي معلمة فلسطينية تقيم قبالة حي الإذاعة: “هذه الأغاني هي تراثنا، إنها تذكرنا بأن التحرير ممكن”، في حين يعتبر عدد من الناشطين الفلسطينيين أن هذا الجهد يتجاوز الحنين إلى الماضي؛ وإنه محاولة لاستعادة الرواية الوطنية في منطقة قمعت فيها الأنظمة الاستبدادية المعارضة لعقود طويلة.
ويمكننا القول أخيراً، إن قصة “صوت الثورة” تعكس رحلة فلسطيني سوريا المضطربة – من الأمل الثوري إلى القمع، وبالنسبة للبعض، التحدي المتجدد، وأن أصداء ترانيم تلك المحطة لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي شهادة على الروح العنيدة لأولئك الذين يرفضون السماح بإسكات تاريخهم.