فايز أبوعيد
قصة اللاجئ الفلسطيني السوري أبو محمد اسم مستعار (40 عاماً) هي واحدة من مئات قصص أبناء المخيمات الفلسطينية الذين عانوا ويلات الحصار والموت جوعاً والمرض والتهجير نتيجة الحرب الدائرة في سورية، والتي دفعتهم للمخاطرة بحياتهم وحياة أطفالهم وركوب قوارب الموت للعيش بسلام.
بدأت قصة مأساة أبو محمد مع تدهور الوضع الأمني بمنطقة سكنه في حيّ التقدم بمخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب العاصمة السورية دمشق، عندما اضطر هو وعائلته في شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 2012 للنزوح إلى منزل داخل المخيم، ومن ثم إلى مكان آخر خارج المخيم يوم 16/12/2012، بعد قصف الطيران الحربي السوري للمخيم وسقوط عدد كبير من الضحايا والجرحى، ودخول المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية إليه.
رحلة تيه جديدة عاشها أبو محمد الذي وجد نفسه في العراء بعد خروجه من اليرموك، حيث قضى أيامه الأولى في أحد مراكز الإيواء قبل أن يتخذ قرار إرسال زوجته التي تحمل الجنسية الأردنية مع أطفاله الخمسة إلى الأردن، والعودة إلى اليرموك لتقديم يد العون والمساعدة لمن بقي داخل المخيم من أبناء شعبه.
حصار اليرموك إبادة للروح
وحول الحصار يقول أبو محمد: “بعد أن قصف النظام السوري جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفلوجة، ودخلت المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية إلى مخيم اليرموك ثم فرض النظام السوري والفصائل الفلسطينية الموالية له حصاراً جزئياً على اليرموك”، حيث سمح النظام في بداية الأمر بمرور المواطنين عبر حاجز مسجد البشير من وإلى المخيم حاملين معهم كمية محدودة من الطعام، إلا أنه كان يذيقهم كافة أنواع الذل والإهانة والعذاب، بعد ذلك تم فرض حصار كامل على اليرموك، مُنع معه دخول المواد الغذائية والمستلزمات الطبية والوقود إلى المخيم، رافق ذلك قطع الماء والكهرباء بشكل كامل عن كافة أحياء ومنازل اليرموك، ويتابع أبو محمد ” أنه مع فرض الحصار التام على المخيم بدأت المأساة الإنسانية بالظهور، فبعد أن اختفى الطعام تدريجيًا من المخيم، وارتفعت أسعاره بشكل كبير، أصبح السكان لا يملكون ثمن الطعام ولم يعد أمامهم غير الماء والأشجار؛ مما أدى لوفاة العشرات منهم.
يضيف أبو محمد إن أبشع ما شاهده في مخيم اليرموك كان محاولة تدمير معنويات الناس. فالحصار دائماً ما يدمر الجسد، إلا أنه أصبح أداة لإبادة الروح، وهذا ما حصل مع العديد من سكان المخيم الذين مات أطفالهم جوعاً أمامهم وهم لا يملكون حيلة أمام هذا المصاب، مشيراً إلى أن الحال وصل ببعض الناس أن يقطعوا مسافات طويلة بحثاً عما يسد رمقهم ورمق أطفالهم، فباتوا يأكلون الحشائش وألواح الصبار ونبات رجل العصفور السامة التي لا تأكلها سوى البهائم، وشرب شوربة البهارات، ووصل بهم الحال إلى أكل القطط والكلاب.
ويتابع أن غالبية الناس أصابها الجوع، وكانوا يكتفون بوجبة واحدة يومياً أو نصف وجبة، ولا يفكّرون إلا بطعام اليوم الذي يحيونه. وقد فقدوا عشرات الكيلوغرامات من أوزرانهم، ينامون ولا يكلّمون بعضهم. والأطفال الذين يبكون من جوعهم يقول لهم أهلهم أن يناموا كي يحصلوا صباحاً على الطعام، كما في كل المرويّات عن المجاعات.
يذكر أبو محمد أن وزنه كان 105 كيلو غرامات قبل حصار اليرموك، أما بعد الحصار نزل وزنه إلى 60 كيلو غرام، مشيراً إلى أن عظام قفصه الصدري برزت وباتت ترى للعيان، وأنه كان لا يستطع النوم بسبب الجوع، فيدخل إلى المطبخ ويبحث عن أي شيء ليأكله فلا يجد، وفي أحد الأيام كانت فرحته لا توصف عندما وجد قطعة خبز منسية في سلة الخضار عليها طبقة من العفن فسارع إلى أكلها.
وأشار أبو محمد إلى أن ظاهرة خلع أبواب البيوت التي هجرها سكانها، وسرقتها انتشرت في مخيم اليرموك من أجل البحث عن الطعام فقط. ولم يكن أحد يلوم من يقوم بذلك.
لكن لم تخلُ الأوضاع من حالات سرقة بعض الأشياء من أجل بيعها. كانت السرقة ظاهرة منتشرة في اليرموك بسبب ضيق الأحوال المادية، لكنّ القهر أن تصل الحال بالعفيفين إلى أن يضطروا إلى سرقة الطعام. ومَن مِنهم استعفف عن السرقة كان يخرج ليلاً ملثَّماً ويلمُّ ما قد يستطيع أكله من القمامة.
قصص مروعة تدمي القلب
عايش أبو محمد كافة الأحداث المؤلمة التي ألمت بمخيم اليرموك من قصف وحصار وتجويع، وكان شاهداً بسبب عمله كسائق إسعاف وأحد العاملين بالمجال الإغاثي على عشرات الحالات الإنسانية التي يندى لها الجبين وتدمع لها العين على حد قوله.
يتحدث أبو محمد عن نكبة الجوع بحسرة وألم فيقول: «عرفت الجوع.. الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي جعل وجبة شوربة البهارات وحشائش الأرض أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم.. الجوع الذي قرأت عنه قصصاً وأساطير راعني أنني عشتها حقائق، الجوع الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه وإنما ينظر إلى الأرض وحدها. حيث يتحرى العثور على فتات خبز، ويتابع كنت شاهداً على العديد من القصص المروعة التي أبكتني لأنني كنت عاجزاً عن تقديم المساعدة لهم، وجعلني ذلك أفضل الموت على الحياة، ففي يوم من الأيام رأيت أمّاً وضعت ابنَتها ذات العامين عند حاوية القمامة وتركتها على الرصيف، لأنها لا تستطيع أن تأمن لها الطعام، كما شاهدتُ جثة رجل مات من الجوع قد أكلت الجرذان جزء من جسده، وذات يوم رأيت عدداً من الأطفال يجتمعون بالقرب من محل لبيع الحلويات (الهريسة) – وكان سعر القطعة الواحدة منها (700 ) ليرة سورية-، ينظرون بحسرة إلى عدد من المسلحين وهم يأكلون الحلويات، ولكن المنظر الذي هز وجداني وزلزل كياني عندما رأيت الأطفال يركضون للإمساك بالورقة التي رماها المسلحون على الأرض من أجل لعق ما تبقى من أثر الحلويات عليها.
لن ينسى أبو محمد مدى حياته على حد قوله منظر ذاك الطابور الطويل الذي وقف فيه حشد كبير من أهالي المخيم من أجل الحصول على القليل من شوربة البهارات، ويذكر أن أغلبية الناس قاموا بشرب شوربة البهارات فور تقديمها لهم، حيث لم يستطيعوا من شدة الجوع الإنتظار لحين عودتهم إلى منازلهم.
ومن أكثر المشاهد التي تركت أثرها النفسي على أبو محمد، رؤيته مجموعة من الأهالي تقوم بسلخ جلد قطة استعداداً لأكل لحمها، ويقول عن ذلك، :”إذا كان الجميع سمع بالفتوى التي صدرت بإمكانية لجوء مَن هم تحت الحصار لأكل لحوم القطط، فإنه قد شاهدها بعينيه.
ويوضح أبو محمد أن هذا غيض من فيض ما يمكن سرده من قصص عن مأساة مخيم اليرموك الذي تحول إلى أسوأ من الجحيم، ويؤكد حتى الحيوانات لم تسلم من الموت جوعاً.
الخروج من اليرموك ورحلة التيه الجديدة
على الرغم مما عاناه أبو محمد من جوع وحصار وما تعرض له من محاولات اغتيال نتيجة عمله كناشط إغاثي وسائق إسعاف، إلا أنه لم يفكر يوماً بمغادرة مخيم اليرموك، إلى أن اقتحم تنظيم الدولة “داعش” المخيم يوم 1- نيسان/ ابريل 2015، بتسهيل من عناصر فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وفرض سيطرته على أجزاء واسعة منه”، مما دفعه ذلك للخروج من المخيم إلى بلدة قدسيا بريف دمشق خوفاً على حياته، خاصة بعد المجازر التي ارتكبها تنظيم الدولة بحق الناشطين الإغاثيين وأهالي مخيم اليرموك، ويضيف أبو محمد بعد ذلك فكرت بالذهاب إلى تركيا ومن ثم الهجرة إلى الدول الأوربية طلباً للأمن والأمان، لأن الحياة لم تعد تطاق في سورية، وصار الموت والحياة متساويين عندي، فاتفقت مع أحد المهربين، وبالفعل قمت بمغادرة قدسيا لكني لم أكن أعلم بحجم المخاطر التي ستواجهني في رحلتي هذه، فقد تعرضت للاعتقال في مدينة إدلب على يد المجموعات المسلحة وبقيت معتقلاً لديهم عشرة أيام تعرضت خلالها للضرب المبرح ولأبشع أنواع التعذيب، إلى أن قاموا بالإفراج عني بعدما تأكدوا أنني لست أحد جنود النظام السوري.
يتابع أبو محمد بعد ذلك أكملت طريقي إلى تركيا متجهاً إلى مدينة إزمير. وهناك بقيت في مكان قريب من البحر لعدة أيام، إلى أن حان موعد الرحلة في منتصف إحدى الليالي”، فركبت ”البلم” وهو قارب مطاطي منفوخ، طوله حوالي ثمانية أمتار، مع حوالي 40 شخصاً، وانطلق بنا نحو اليونان، وأشار أبو محمد إلى أن البلم كاد أن يغرق بمن فيه نتيجة هيجان البحر والحمولة الزائدة عليه، مما جعل الكثير من النساء والأطفال يبكون من شدة خوفهم، أما الرجال فكانوا يذكرون الله ويقرؤون القرآن، و”بعد أن وصلنا إلى الشواطئ اليونانية، بدأ الجميع بالسير في الجزيرة حتى وصلنا إلى أول نقطة أمنية، فأخذتنا الشرطة بعد ذلك إلى مخيم في الجزيرة لتسجيل أسمائنا، وإعطائنا الخارطية، وهي وثيقة طرد من اليونان في غضون 3 أشهر”.
انتقلت بعد الحصول على الخارطية، إلى أثينا بالسفينة، ومنها ركبت بالباص إلى حدود مقدونيا، ومنها إلى حدود صربيا، موضحاً أنه كان ينزل قبل الحدود ليعبرها سيراً أو بالباصات في بعض الأحيان”، يوضح أبو محمد أن المشكلة الأساسية كانت في هنغاريا، التي أقفلت حدودها بشكل كلي أمام المهاجرين، إلا أنه كان من المهاجرين الأكثر حظاً، إذ استطاع أن يتجاوز الحدود قبل المنع، واستقل الباص باتجاه النمسا ومنها إلى ألمانيا.
وعن تكلفة الرحلة كاملة حتى ألمانيا، يخبرنا أبو محمد أنه دفع 8000 يورو (9000 دولار)، مكنته من الفرار من سورية إلى إدلب ومن ثم العبور من تركيا إلى ألمانيا التي استضافته بشكل لائق، بحسب قوله.
الوصول إلى بر الأمان لم ينه رحلة العذاب
وصل أبو محمد بعد طول عناء وعذاب إلى ألمانيا يوم 22 / 11 / 2015، وفور وصوله مكث عدة أيام عند أحد أصدقائه كي يستعيد عافيته، وبعدها قام بتسليم نفسه إلى البوليس الألماني، وهناك تمت الإجراءات الإعتيادية من أجل تسجيله كلاجئ وفرزه إلى أحد مركز إيواء اللاجئين، وبعد فرزه واستقرار الحال به في ألمانيا أحس أبو محمد بنوع من الراحة وأنه وصل إلى بر الأمان، إلا أن ذاك الشعور لم يدم طويلاً بسبب بعد عائلته عنه، يقول أبو محمد ” لم أر أطفالي وزوجتي منذ ست سنوات وهم الآن يعيشون حياة قاسية ويعانون من أوضاع معيشية مزرية في الأردن نتيجة عدم وجودي إلى جانبهم”، ويروي أبو محمد بحسرة كيف رفضت ابنته ذات الست سنوات التي لم يرها منذ أن كان عمرها عشرة أشهر الحديث معه على السكايب لأنه غريب عنها ولا تعرفه، هذا الموقف أثر على حالته النفسية بسبب القوانين الألمانية التي باتت تضيق الخناق على اللاجئين فيها، حيث جاءت تلك التضييقات من خلال مجموعة من التعديلات في القوانين الألمانية الخاصة بالتعامل مع طالبي اللجوء جرت مؤخراً، وتُوّجت بقرار صدر يوم 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 عن المحكمة الإدارية العليا في ولاية “شليسفيغ هولشتاين – Schleswig-Holstein” الألمانية، مما يعني أن “اللاجئين السوريين لهم الحق في أن يُمنحوا حماية ثانوية – مؤقتة، وليس من الضروري توفير الحماية الكاملة لهم – وضع اللاجئ”.
حصل ما كان يخاف منه أبو محمد فبعد أكثر من عام على إقامته في ألمانيا تم منحه إقامة لمدة عام مما يعني عدم لم شمل عائلته التي تعيش شظف العيش في الأردن، والتي يتوق شوقاً لرؤيتها وضم بناته الخمسة إلى صدره والجلوس معهم، فهو على حد قوله أصيب بحالة من اليأس والضياع، هو الآن بين خيارين أحلهما مر أما أن يبقى في ألمانيا وينتظر سنوات عديدة للم شمل عائلته أو الرجوع إلى سورية مما يعني تعريض حياته للخطر ومواجهة الموت الأكيد هناك.
يشار أنه لا يوجد إحصائيات رسمية لأعداد اللاجئين الفلسطينيين السوريين في ألمانيا، والذين يُصنفوا على أنهم من عديمي الجنسية وفقاً للقوانين الألمانية، ومن المفترض أن تكون ألمانيا ملتزمة تبعاً لاتفاقية جنيف، بتسهيل تجنيس الأشخاص عديمي الجنسية وذلك استناداً إلى قانون الجنسية الألمانية للعام 2000، ولكن من الواضح أن ألمانيا باتت تتنصل من تطبيق وتنفيذ تلك القوانين.