فايز أبوعيد
لاجئون فلسطينيون سوريون اتعبتهم رحلة اللجوء وقضّ مضاجعهم أزيز الرصاص وتعرضهم للقصف ما أدى إلى دمار بيوتهم وفقدانهم كل ما يملكون، فخرجوا من مخيماتهم في رحلة تيه جديدة للبحث عن الآمن والأمان، فلم يجدوا أمامهم من مناص بعد أن لفظتهم معظم البلاد العربية إلا خوض غمار البحر وركوب قوارب الموت، إلا أن تلك الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر وأدت إلى هلاك الكثيرين منهم، ورسمت منعطفاً جديداً في دروب آلامهم وأوجاعهم.
مازن أبو عيد (44 عاماً) من أبناء مخيم اليرموك نزح هو وعائلته المكونة من سبعة أفراد إلى منطقة مساكن برزة بدمشق، هرباً من الموت المحتم بعد أن قصف الطيران الحربي جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفلوجة، ودخول المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية إلى المخيم.
يضيف مازن لحظات الرعب التي عاشها هو وعائلته أثناء خروجهم مع الآلاف من مخيم اليرموك.
يقول مازن : كانت الجحافل من أهالي المخيم يغادرونه، منهم من يحمل والده على ظهره، ومنهم من يجر والدته المريضة أمامه، نساء أطفال يبكون، حالة من الرعب بادية على محياهم، صدمة وذهول أصابني، وبت في حيرة من أمري، ماذا أفعل؟ وكيف أتصرف؟ أولادي وزوجتي خلفي ينظرون إلى الناس ويرمقونني بعيون خائفة، وفي طريقنا لم نسلم من رصاص وحقد الغادرين الذين فتحوا فوهات بنادقهم على المدنيين، حيث أصابت رصاصة قناص امرأة لم تكن تبعد عنا سوى بضع خطوات، صراخها ودمائها التي سالت كانت كفيلة أن تبعث مزيداً من الخوف والرعب في نفوس جميع من كان بالقرب منها، تعالت صرخات النساء والأطفال، استطعنا بعد ذلك الخروج من المخيم إلى حي الزاهرة الدمشقي.
النزوح إلى مساكن برزة:
بعد أن خرجنا بسلام من مخيم اليرموك وقفنا حائرين في منطقة الزاهرة بدمشق لا ندري إلى أي مكان نلجأ، حينها اقترح أخي أن نذهب إلى أقاربنا في مساكن برزة، يتابع مازن حديثه ويقول بالفعل ركبنا سيارة أجرة وتوجهنا إلى مساكن برزة بدمشق طلباً للأمن والأمان، ويستطرد لقد تزامن وصولنا إلى بيت أحد أقاربنا في يوم بارد جداً تتساقط فيه الثلوج، ونظراً لعددنا الكبير اضطررنا إلى الإقامة في شقة غير مكسية ولا يوجد فيها أي وسيلة للتدفئة، هذا إضافة إلى الماء الذي كان يدلف علينا من سقفها، ليلة عشناها من أصعب ليالي حياتنا برد قارس وماء ينساب من سقف الغرفة، لم أنم ليلتها لأن ذاكرتي عادت بي إلى ما كنت أقرأ عنه من ألم ومأساة وعناء كابده أهلنا عندما هجروا من أراضيهم عام 1948، إذاً هي النكبة الثانية التي نمر بها، هو نفس الألم والمعاناة نعيشها بعد 67 عاماً، هو نفس مذاق العلقم الذي تجرعه أباؤنا وأجدادنا.
ويردف مازن بعد مضي حوالي الشهرين على تواجدنا في منطقة مساكن برزة، تدهور الوضع الأمني فيها جراء الاشتباكات التي حدثت بين الجيش النظامي، وقوات المعارضة السورية المسلحة في منطقة برزة البلد، فكان لبرزة نصيب من القذائف والتفجيرات، فقد انفجرت في يوم واحد أربع سيارات مفخخة في محيط المنزل الذي أقيم فيه، حالة من الهلع والخوف سيطرت علينا وعلت حينها صرخات زوجتي وأولادي وأولاد أخي، صرخاتهم المدوية التي لا يزال صداها يتردد في آذني إلى الآن هي السبب التي جعلني أحزم أمري وأقرر مغادرة سورية إلى لبنان، رغم علمي أنني سأكابد فيها عناء الحياة، ولكنني كنت أنشد الأمن والاطمئنان لعائلتي.
الهجرة إلى لبنان:
يقول أبوعيد وصلت إلى لبنان عام 2013 أنا وعائلتي المكونة من سبعة أفراد أكبرهم يبلغ من العمر 12 ربيعاً، ذهبت إلى منزل أخي الذي هاجر من سورية إلى لبنان قبلي بفترة وجيزة، وجلست أنا وعائلتي في منزله الذي كان يحتوي أربع عائلات، حيث بلغ عدد الأفراد المتواجدين في البيت حوالي 22 شخصاً.
ويستطرد أبوعيد أنني بعد فترة قصيرة وجدت عملاً بمهنة البلاط، واستطعت من خلاله أن أستأجر منزل لعائلتي، وبقي الحال على ذلك لمدة عام متواصل، إلى أن أقعدني المرض ولم أعد استطع العمل وتراكمت علي الديون وبت غير قادر على دفع أجرة البيت، لقد عشت حياة قاسية جعلتني مراراً أفكر بالعودة إلى سورية إلا أن وضعها الأمني غير المستقر لم يسمح لي بذلك، وبعد طول معاناة وشقاء وأيام ضنك عشتها، قررت الهجرة إلى أوروبا للبحث عن حياة كريمة لي ولعائلتي، ولكن المشكلة الكبرى هي كيف أؤمن تكاليف السفر والتي تقدر بـ 4500$، فشكيت همي إلى أخي، الذي كان يوفر هذا المبلغ ليسافر به إلى أوروبا، وعندما وجد حجم المصاب الجلل الذي أمر به فضل أن ينقذ حياة أسرتي فأقرضني المبلغ لحين ميسرة.
طريق الهجرة والموت
لم يستطع مازن كتم فرحته، حيث تواصل فوراً مع أحد المهربين، الذي أخرجه من لبنان إلى السودان.
وفعلاً وصل مازن إلى السودان يوم 6 حزيران/ يونيو 2015 استقبله المهرب في المطار، ومن ثم ذهبا إلى منزل صغير في الخرطوم، استأجره المهرب لتجميع الأشخاص به، بعدها أخبرهم المهرب أن عليهم تجهيز أنفسهم للمغادرة، حيث ستكون رحلتهم بصحراء السودان إلى ليبيا ومن هناك إلى إيطاليا.
يصف مازن تفاصيل رحلته في صحراء السودان إلى ليبيا بحزن شديد، وبحسب قوله لقد تم حشري مع 30 شخصاً بينهم أطفال ونساء في سيارة جيب مكشوفة ليس لها سقف يقي من حرارة الشمس الملتهبة، وانطلقت السيارة بسرعة جنونية وكادت أن تقلب عدة مرات، وسط صرخات النساء وبكاء الأطفال، وما أحزن أبوعيد وسبب له الكآبة ما شاهده من انقلاب سيارة وموت 30 شخصاً بسبب السرعة الجنونية، وفي حادثة أخرى يقول مازن لقد شاهدت شاباً يقع من السيارة التي كانت أمامنا نتيجة السرعة الجنونية إلا أن المهرب تركه دون أن يعود لإنقاذه، ونحن بدورنا رجونا السائق بأن نأخذه معنا، ولكنه قال لنا لا أستطيع أن أقف بسبب وجود عصابات على الطريق، ومضينا بطريقنا ومازال منظر الشاب في مخيلتي.
يتابع أبوعيد سرد حكايته ويقول: بعد ذلك وصلنا إلى ليبيا، وكان المهربون قد أخبرونا أننا سننزل في مزرعة أو فندق، إلا أنه عندنا وصولنا اكتشفنا كذبهم حيث أجلسونا في مكان فيه أربعة عواميد خشب تغطيها أوراق النخيل، أما السقف فهو مغطى بأكياس خيش، وهناك خزان ماء غير صالح للشرب والاستخدام البشري.
ويشير مازن أن المهربين عاملوهم معاملة غير إنسانية وطلبوا منهم مبلغ إضافي من المال مقابل نقلهم إلى منطقة أخرى قريبة من البحر، وبعد مفاوضات مع المهربين واقتناعهم أننا لا نملك المال، قاموا بنقلنا إلى منطقة بني وليد التي مكثنا فيها عدة أيام، ومن ثم خضنا غمار البحر من ليبيا إلى إيطاليا، وفي وسط البحر كان هناك بارجة إيطالية، نقلونا إليها، وبعد وصولنا إلى إيطاليا نقلونا إلى أماكن تجمع اللاجئين وهناك استطعت الهرب قبل أن يجبروني على أن أبصم وركبت القطار المتجه نحو ألمانيا والتي اخترتها لأنها كانت تتيح لم شمل العائلة بفترة قصيرة.
ألمانيا ومعاناة لم الشمل والغربة
وصل مازن أبوعيد إلى مبتغاه وهو يأمل أن يحقق حلمه ويلم شمل أسرته، إلا أن حلمه لم يتحقق وبات يفكر بالعودة إلى عائلته في لبنان، بسبب القوانين الألمانية التي باتت تضيق الخناق على اللاجئين فيها، فبعد أكثر من عامين على إقامته في ألمانيا تم منحه إقامة لمدة عام مما يعني عدم لم شمل عائلته التي تعيش شظف العيش في لبنان.
إلى ذلك قضت محكمة ولاية شليسفيغ هولشتاين الإدارية العليا في المانيا بأن من حق السلطات منح السوريين شكلاً من أشكال الحماية لا يصل إلى حد اللجوء الكامل، وأن السوريين الذين لا يستطيعون إثبات أنهم يتعرضون للاضطهاد بشكل شخصي ليسوا مخولين بالضرورة الحصول على وضع اللجوء الكامل.
وقررت أن يحظى المهاجرون بـ”حماية جانبية”، وهو ما لا يمكن وصفه بلجوء رسمي، وبما لا يتيح لهم استقبال أقارب لمدة عامين.
لم يخطر ببال مازن الذي خاطر بنفسه من أجل أن يوفر حياة أفضل لبقية أفراد عائلته أن يصل به الأمر إلى ما وصل إليه، فبعد أن كان يخطط لمستقبل زاهر وواعد لأطفاله الستة، بات الآن في حالة من اليأس والضياع، هو بين خيارين أحلهما مر، إما أن يبقى في ألمانيا وينتظر سنوات عديدة للم شمل عائلته أو الرجوع إلى لبنان والعودة لضنك العيش والمعاناة القانونية والصحية والاقتصادية التي يعيشها حوالي 30 ألف لاجئ فلسطيني سوري في لبنان .
يشار أنه لا يوجد إحصائيات رسمية لأعداد اللاجئين الفلسطينيين السوريين في ألمانيا، والذين يُصنفوا على أنهم من عديمي الجنسية وفقاً للقوانين الألمانية، ومن المفترض أن تكون ألمانيا ملتزمة تبعاً لاتفاقية جنيف، بتسهيل تجنيس الأشخاص عديمي الجنسية وذلك استناداً إلى قانون الجنسية الألمانية للعام 2000، ولكن من الواضح أن ألمانيا باتت تتنصل من تطبيق وتنفيذ تلك القوانين.