بقلم: الشاعر سمير عطية
منذ أن أدار ” ظريف الطول ” ظهره للأماني، وأسلم نفسه للغياب، والأغاني تُلاحقه في كل درب وطريق:
يا ظريف الطّول وقّف ت قولّك
رايح غالغربة وبلادك أحسنلك
خايف يا ظريف تروح وتتملّك
وتعاشر الغير وتنساني أنا
هكذا ودّعته القلوب التي أحبته، الذين رأوا فيه شهيداً محتملاً، واللواتي انتظرنه ليملأ الدروب وِدادا.
هكذا بدأ، أو فلنقل أردنا لتلك التغريبة أن تبدأ، بعد أن ظننا أنّ إبراهيم طوقان يهذي وهو يصرخ مُحذّراً:
يا قوم ليس أمامكم إلاّ الجلاء فحزّموا!!
لأبوين ” لاجئين ” من فلسطين، وُلد فايز أبو عيد، لم يعرف الكروم الفلسطينية، ولا مواسم اللوز فيها، كان يرى ذلك في سوق اليرموك الذي يُطل عليه من نافذة الشجن في بيته المؤقت.
كيف يمكن لكاتب أن يفقد أبجديات التين والزيتون في داره؟
ثُمَّ يخط سطوره على نداء بائع لمشمش قدم من حماة وكرز جاؤوا به من الزبداني، ولم تمر في كل السوق أي عربة قادمة من الوطن؟
فايز! استيقظ! أحضرت لك الشاي الذي طلبت.
في كلّ مرَّة ينام على نافذة الوطن وهو يفتح عينيه!
طالبان يُشاكسان البائع، يدفعان بعض القروش ليشتريا موزاً.
فتاة تحمل في يدها الفلافل، تصل رائحته إلى أنفه فيسافر إلى صفد وأسواقها …
حتى وهو يحتسي الشاي الذي غمرته والدته ب ” الميرميّة “، يعود برائحتها إلى بيت لحم.
يقولون في الأسطورة الدّينية إنّ اسمها ” المريميّة “، وقد نبتت قرب مريم عليها السلام حين ولدت عيسى عليه السلام.
مزدحمة هي الذّاكرة في وجدان فايز، في كل مرّة يعود فيها إلى الدّفتر ليخط ما بدأ كتابته، يكتب فايز – فلسطين، ويزهو مفاخراً: يكفي أنّنا نبدأ الحرف ذاته .
لا يلتفت إلى مزاح أصدقائه الذين يُحوّلون النكات ذاتها على بعضهم: مرّة واحد حيفاوي! بتعرف نكتة الصفدية؟ أهل صفورية عملوا هيك!
يبتسم وهو يشرب الشاي وتسترق أمه النظرات إليه وهو يتذكر ضحكاته مع أصدقائه، لا تعلم ما الذي جعله يبتسم، ولكن قلبها يفرح بهذا.
كثيراً ما وقع قلمه من النافذة ليلتقطه جاره البائع، يا أستاذ فايز: القلم صار بذمتي! وبدلاً من أن يكتب القلم حكايات الوطن المسلوب، بات يعدُّ أرقام المشترين لا المُشرّدين!
كلّما تذكّر أنّه فقد قلمه لبائع خضار سيكتب به الأرقام يُصاب بالانزعاج، لا يتذكّر من الأرقام إلاّ أيام وشهور وعام نكبته! يحفظ تلك الأرقام أكثر من تاريخ ميلاده.
قال ذات أسى لأسامة الذي سيرافقه طويلا على خارطة الحكاية: الميلاد الحقيقي هو ميلاد الوطن، فكيف سنحتفي بالميلاد، والوطن في غرفة الإنعاش؟
باغته صديقه: هل سيموت الوطن يا فايز؟
أجابه بثقة كلها حزن: الوطن لا يموت يا أسامة، نحن من يموت، ونموت كلَّ يوم مرّتين، مرّّة لأننا لم نولد فيه ومرّة ثانية لأننا فقدناه.
أسامة الذي بات أكثر حذرا في الحديث مع الناس إلا مع أصدقائه المقربين، منذ أن اعتقل الأمن شقيقه لأنه “طويل لسان” على حد وصفهم، فغاب لسنوات في أقبيتهم وخرج بلا قدرة على النطق، يحب فايز ولا يتفق معه في تفاؤله.
يقول دائماً معلّمهم ابن قرية الشجرة في الثانوية إنّ اللاجئ ليس مغترباً سافر ليحسّن ظروفه الماليَّة، نحن لاجئون.
ويمتد صوت حرف الواو في آذان الطلّاب، ويعود فايز إلى كوب الشاي الذي لم يصل فيه إلى القاع.
لم تصل إلى قاع الكوب!!
يضحك صديقه في المقهى وهو يعلم ماذا سيقول فايز!
” بدّك أكثر من هذا القاع اللي وصلنا له “؟
لم نصل بعد إلى القاع!
يترددّ صوت أسامة الذي غاب في النرويج اليوم ولم تغب قهقهاته ولا تحذيراته، وعلى نافذة شجن مختلف يفتقد فيه إلى كوب شاي بالميرميّة تُعدّه والدته فيشم رائحتهما ولا يَراهما!
حتى الذاكرة التي كان يحتفظ بها لتعيده إلى فلسطين في سوق الخضار باتت أكثر غربة!!
لا صوت أبو أحمد الصفصافي يُعيده إلى شجنه!
وأصبحت المسافة أكثر بُعداً من نجمة، وبات جرحه أكثر اتساعاً من كون.
قال له صديقه أسامة ممازحاً بلوعة الفقد عبر الهاتف:
استبدلوا الحروف يا صديقي، كانت خيبة وأصبحت خيمة! ما أكثر خيباتنا وخيام لجوئنا!
يبحث فايز ليُسطّر فصولاُ من تغريبته، يبحث عن القلم، يتذكّر أنّه سقط من النافذة على “بسطة الخضار” لجاره في اليرموك، يمدُّ رأسه لينادي عليه، لا يجد جاره، ويتذكر أنّه فقد اليرموك …فقد المخيّم …. بعد أن فقد الوطن.
يتذكّر مقولة أسامة حين قال له في مقهى كان يرتاده المثقفون في دمشق إنّ القاع لم يأت بعد.
اليوم يتيقن من ذلك، حين يطيل النظر في الصور التي تأتيه من وكالات الأنباء عن آلاف اللاجئين وهم يحاولون العبور إلى اليونان.
يُشاهد حنظلة ناجي العلي بينهم وهو يُدير ظهره للخذلان، يُدقق أكثر فيرى ظريف الطّول وهو يواصل تغريبته، هُنا يطلق فايز تنهيدته الأخيرة:
يا ظريف الطّول وين مسافرين
من بعدكم ما احليلي عنب وتين
وبعد ما كُنّا في الدّار مجمّعين
يا حسره، صار الورق مرسالنا !