فايز أبو عيد
وقف حائراً لم يصدق ما تراه عيناه. بحث لنفسه عن موطئ قدم بين هذه الجموع الغفيرة، وظن أنه في المكان الخاطئ، إلى أن تناهى لمسامعه صوت أيقظه من دهشته وذهوله: “أستاذ، بدك تطلع جواز سفر أم بدك تأجل جيش”، هنا أدرك أنه في مقر شعبة تجنيد فلسطين ومؤسسة الهجرة والجوازات. خالد الذي لم يفكر يوماً في أن يهجر سورية التي يحبها ويعتبرها موطنه الثاني بعد فلسطين، يجد نفسه اليوم في طابور طويل يزاحم ويسعى إلى استخراج وثيقة سفر مكرهاً نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية في سورية. ورغم ذلك، يصر على أنه لن يرحل عنها إلا إذا اضطر إلى ذلك.
أما محسن، وهو من سكان مخيم جرمانا، فمثله مثل أي لاجئ فلسطيني، كان حلمه ولا يزال أن يهاجر إلى أية دولة أوروبية ليعيش حياة كريمة بعيداً عن العوز المادي، وقد جاء إلى مبنى الهجرة والجوازات في “عين كرش” ليجدد وثيقة سفره المنتهية مدتها، عله يجد ضالته في الهجرة، ويقول وقد تفاجأ تماماً بهذا الكم الكبير من الناس الموجودين في ردهة ساحة الهجرة والجوازات: “انتظرت ساعات وساعات ولم يأت دوري، رغم أنني جئت قبل الشحادة وابنتها” حسب قوله للدلالة على أنه جاء قبل أن يبدأ دوام الموظفين بوقت طويل. يتنهد ويردف: “لقد تم تأجيلي إلى اليوم الثاني”. ورغم مشقة الحصول على جواز السفر، إلا أنّ محسن مُصر على مغادرة سورية بعد ما شاهده من دمار وقتل لم يميز بين سوري أو فلسطيني، حتى إن أخاه قُتل في خضم هذه الأحداث الدموية التي تجري على أرض الفيحاء. قراره بالهجرة لا رجعة عنه، هكذا يخبرني وهو ينفث دخان سيجارته في وجهي وعلامات الحزن ترتسم على وجهه.
ويروي بسام (30) عاماً من مخيم خان الشيح مدى صعوبة أن يذهب الشخص في ظل هذه الأحداث ليحصل على جواز سفر فيقول: “إن أردت الحصول على جواز سفر، فعليك الحصول على موافقة من شعبة التجنيد، وعند ذهابك إلى شعبة تجنيد فلسطين تُفاجأ بالكمّ الهائل من المراجعين الذين يملأون الباحة المقابلة للشعبة التي تتسع لما يزيد على 400 شخص؛ فالجميع يريد الحصول على وثيقة للسفر، وخصوصاً بعد تعرض المخيمات الفلسطينية للقذائف العشوائية”، ويضيف: “لكن لتحصل على التأشيرة، عليك اجتياز مشوار طويل من الانتظار، أو عليك أن تأتي قبل بدء الدوام بساعتين أو أكثر، وذلك كي تحجز دوراً على باب الشعبة التي تخدم جميع اللاجئين الفلسطينيين في دمشق وريفها”.
وللهجرة ووثيقة السفر قصة مشابهة؛ فبالإضافة إلى المئات الذين يأتون للحصول على وثيقة السفر لهم ولعائلاتهم، هناك المئات أيضاً يريدون الحصول على برقيات المغادرة إلى لبنان، كما حدث مع مازن (47) عاماً من مخيم درعا الذي جاء لاستخراج موافقة للذهاب إلى لبنان عند أقارب له في مخيم عين الحلوة، بعد أن رأى الموت بعينيه، حسب قوله، يوم دُمر منزله إثر سقوط قذيفة عليه ولم يعد يملك أي مأوى. لهذا، قرر الذهاب إلى لبنان، وكان يأمل أن يغادر سورية اليوم قبل الغد، لكن الروتين وحالة الفوضى والرشوة التي ما زالت متفشية أجلت حصوله على الموافقة إلى اليوم الثالث.
من جهته، رأى أحد موظفي الهجرة والجوازات في مؤسسة “عين كرش” أن المشكلة في هذا الازدحام لا تكمن فقط في تدهور الوضع الأمني في سورية، بل بضعف قدرة الهجرة والجوازات على تقديم الخدمة لهذا العدد الكبير من المراجعين؛ فعدد الجوازات التي تطبع تقدر بمئة جواز يومياً، بينما عدد الطلبات التي تقدم يومياً نحو أربعمئة جواز، ما يضطر بعض المراجعين إلى الانتظار أكثر من عشرين يوماً للحصول على جوازات سفرهم. واستطرد قائلاً: “أما بالنسبة إلى شعبة التجنيد، فما يزيد الازدحام فيها، هو موعد حصول المجندين على دفاتر الخدمة حيث تكون الشعبة ممتلئة في مثل هذه الأوقات من كل عام، ويزداد الازدحام كثيراً مع تدفق المئات يومياً على الشعبة للأسباب التي ذكرناها سابقاً. ويشار إلى أن الشعبة تحاول العمل بسرعة، وتحاول أيضاً عدم عرقلة الطلبات، لكن المشكلة تكمن في عدد الموظفين المحدودين في الشعبة”.
يشتاط فادي غضباً عندما يسمع هذا الكلام من الموظف، ويراه كلاماً فارغاً يقال لرفع المسؤولية عنهم. ويؤكد أن هذا الازدحام وحالة الفوضى الموجودة هما بفعل بعض الموظفين الذين يستغلون هذه الأوضاع لابتزاز الناس وأخذ رشوة منهم، ويقول فادي: “لن أسرد لك قصص قيل وقال، بل سأروي لك حكايتي. فبعد انتظار طويل في مؤسسة “عين كرش” لاستصدار وثيقة سفر، طلب مني أحد الموظفين الذهاب والعودة في الساعة الرابعة عصراً، فقلت له إن الدوام الرسمي ينتهي في الثانية والنصف، فما المغزى من مجيئي الساعة الرابعة، فهز رأسه وقال: عندما تأتي تعرف الجواب. وبالفعل، كنت في الوقت المحدد هناك، وإذا بأعداد أخرى مثلي تواعدت مع ذات الموظف، وذلك لإمرار المعاملة بعد انتهاء الدوام الرسمي مقابل مبلغ من المال”. من اللافت للنظر أنه رغم ذاك الكم الهائل، إلا أنك تجد أن هناك مجموعات من الشباب والفتيات تتبادل أطراف الحديث وتضحك بصوت عال. اقتربت منهم لأستطلع الخبر، فوجدت صديقاً لي لم أره منذ زمن طويل. هنا ضحك رفيقي وقال: نحن شلة شباب من مخيمات مختلفة درسنا في الجامعة معاً وفرقتنا بعد ذلك مشاغل الحياة. واليوم تجمعنا الأزمة السورية في مقر الهجرة والجوازات لنستعيد الذكريات الجميلة التي قضيناها معاً. ويضيف: كانت أياماً جميلة. الله يعيدها علينا بالأمان والسلام ويحمي سورية وشعبها