فايز أبو عيد
تؤدي الأحداث الكبرى كالحروب والكوارث الطبيعية عادة إلى حدوث تغيرات جذرية في بنية المجتمع وتماسكه وبنيته القيمية وقواعده، وهي ثوابت يحتاج تغييرها زمناً طويلاً أو أن يتعرض المجتمع لصدمة كبيرة تفضي إلى حدوث التغيير بوقت قصير نسبياً.
ولا شك بأن المجتمع السوري عموماً والمجتمع الفلسطيني باعتباره جزء من نسيج هذه المجتمع تعرض لأكبر مأساة في القرن الحالي، عانى خلالها السوريون والفلسطينيون ويلات الحرب والاعتقال والاختطاف والحصار والجوع والأزمة الاقتصادية، وكل ذلك سرع من عملية حدوث تغيير اجتماعي في مختلف النواحي رافقه العديد من المشكلات التي تفاقمت بشكل كبير وينذر بالخطر.
الأسرة الفلسطينية في خضم الحرب وما بعدها
الأسرة الفلسطينية بشكل عام تولي أهمية لتماسكها وارتباط أفرادها ببعضهم البعض وبعض الأسر حافظت ومازالت تحافظ على نظام الأسرة الممتدة المتمثلة بوجود الأب والأبناء وأبناء الأبناء ضمن نطاق واحد، ولكن مع بداية الحرب وتوسعها لتشمل المخيمات التي تعرضت للقصف العشوائي والعنيف بمختلف الأسلحة الثقيلة، اضطرت أغلب العائلات للنزوح من منازلها، والسكن في منازل مستأجرة لأكثر من عائلة أو في مراكز الإيواء كالمدارس، و زادت خلال هذه الفترة أعباء الأسرة الاقتصادية والتربوية والاجتماعية ولم تستطع أغلبها تدارك الأزمة وتحمل الأعباء الملقاة على كاهلها، الأمر الذي أدى إلى تفلت الأبناء وفقدان السيطرة عليهم من جهة ومن جهة أخرى ارتفعت حالات الطلاق لنفس الأسباب، وتشرد الأبناء بين الأب والأم أو عند أحد أجداده، كما لوحظ ارتفاع نسبة الطلاق لدى اللاجئين في أوروبا .
تفاقم المشكلات الاجتماعية
لاشك بأن المجتمع الفلسطيني في سورية كان يعاني من عدة مشكلات مجتمعية كالفقر والمخدرات والبطالة أثرت على استقراره ولكن المراقب للوضع قبل الأحداث يرى أن تلك المشكلات كانت تميل نحو التراجع ولو بشكل بطيء، خاصة مع ارتفاع أعداد الخريجين الجامعيين والتحاق أعداد كبيرة من الطلبة الفلسطينيين بالدراسة الجامعية وتحسن الوضع المعيشي بعد بداية القرن الحالي، ومشاركة بعض الفصائل الفلسطينية في العمل الاجتماعي والاقتراب من الأهالي، فكان مخيم اليرموك مثلاً أكثر منطقة نشطة في العاصمة دمشق اقتصادياً وثقافياً اذ كان المركز الثقافي العربي في المخيم أكثر من نظرائه في العاصمة حراكاً وفعالية ، وكذلك الحال في مخيم الحسينية والسيدة زينب وخان دنون والنيرب وغيرها من المخيمات الفلسطينية.
أما مع بداية الحرب في سورية تغيرت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وزادت سوءاً نتيجة خسارتهم لأرزاقهم وكل ما يملكون، جراء القصف والتعفيش واضطرارهم للنزوح عن مخيماتهم، وفقدانهم لأعمالهم، بالإضافة الى تدهور أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية المزرية، وارتفاع تكاليف المعيشة.
وما فاقم من مأساتهم وأثر سلباً على أوضاعهم الحياتية توقف العديد من المؤسسات الاقتصادية والمنشآت الصغيرة وخسارة آلاف العاملين لوظائفهم، مما أدى إلى انتشار الفقر بشكل واسع بين اللاجئين الفلسطينيين في سورية وزاد من معاناتهم.
في السياق أشارت وكالة الأونروا في تقريرها الذي نشرته عام 2022 تحت عنوان ” النداء الطارئ لسنة 2022 بشأن أزمة سورية الإقليمية” بأن 82% من اللاجئين الفلسطينيين في سورية يتقاضون أقل من 1.9 $ يومياً وتحدثت بأن 90% من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر، ولكن المؤشرات تدل بأنها تتجاوز 93 %.
وعادة ما يجر الفقر معه مصائب أخرى كانتشار السرقة التي أخذت أشكال متعددة كسرقة الكابلات والسيارات والمحال التجارية والمنازل، كما سهل الفقر إسقاط الشباب الفلسطيني في تعاطي وتجارة المخدرات، التي أصبح تداولها في سورية كتداول الخبز.
انتشار آفة المخدرات
و على الرغم من انتشارها قبل الحرب إلا أنها كانت في تراجع مستمر نتيجة ازدياد الوعي في المجتمع الفلسطيني ، و تحسن الوضع الاجتماعي عموماً ، ولكن بعد الحرب أدت عدة ظروف إلى انتشارها بشكل غير مسبوق، منها مساعدة أجهزة الأمن و ضباط في الجيش وجيش التحرير بنشرها وتوزيعها، وخاصة الكبتاغون حيث نقلت بعض المصادر أنه كان يوزع على المقاتلين بشكل رسمي للحفاظ على يقظتهم أثناء مواجهة قوات المعارضة. وأصبحت تجارة الحبوب المخدرة تتم تحت حماية شخصيات أمنية وعسكرية نافذة، ومن هذه الحوادث توقيف رئيس فرع مكافحة المخدرات بدمشق قبل ثلاثة أعوام بتهمة ترويج المخدرات، علماً بأن التقارير الإعلامية والاستخباراتية تواترت على ضلوع الفرقة الرابعة بتجارة الكبتاغون.
ساعدت الحرب السورية على زيادة انتشار تعاطي المخدرات وسهولة الحصول عليها وتداولها بشكل أكبر وأحياناً شبه علني، وأكدت تقارير إعلامية ومعلومات استخباراتية بأن سورية أصبحت بؤرة رئيسية لترويج وصناعة المخدرات.
وما تعانيه المخيمات والتجمعات الفلسطينية من هذه الآفة تنسحب على بقية المدن السورية وربما كان الواقع أشد وطأة وأكثر قسوة وخطورة.
في حين لوحظ في السنوات الأخيرة جراء ضغوطات الحياة والأوضاع الإنسانية والاقتصادية القاسية بسبب ظروف الحرب في سورية، انتشار ظاهرة الاستخدام السيء للأدوية بشكل مخيف، حيث أصبح بعض الشباب السوري والفلسطيني يتعاطون الأدوية المهدئة والمهلوسات، والإدمان على الكحول والمخدرات، حيث أصبح تعاطي مادة الحشيش مثلاً أمراً شبه عادي بين الشباب، ويتم تداولها وبيعها في الأزقة أحياناً على أعين المارة.
مهدت الحالة الاقتصادية المتردية لانحراف بعض الشباب باتجاه المخدرات تعاطياً وترويجاً، بهدف الحصول على المال، الأمر الذي بات يهدد المجتمع الفلسطيني في سوريا بالانحلال والجريمة والفشل والتردي الأخلاقي.
التسول ظاهرة جديدة
كانت ظاهرة التسول قبل الحرب محدودة جداً ولا تكاد تظهر بسبب الضوابط الاجتماعية والوضع الاقتصادي المستقر داخل المخيمات بالاضافة إلى قلة عدد المحتاجين قياساً على عدد الجمعيات الناشطة في المجال الخيري، ولكن نلاحظ اليوم تفشي هذه الظاهرة في المخيمات الفلسطينية، حيث اتخذت أشكالاً عديدة، كالتسول بحجة الإعاقة أو النزوح أو غياب المعيل.
ارتفاع معدل الجرائم وحالات القتل والسرقة والاختطاف
ارتفع معدل الجرائم وحالات القتل والسرقة والاختطاف في سورية بشكل عام وفي المناطق والمخيمات الفلسطينية الخاضعة للسلطات السورية بنسب عالية وبشكلٍ ملفت خلال السنوات الماضية، بسبب ( بسبب انتشار المليشيات وفوضى السلاح وسهولة الافلات من العقاب)، وتداعياتها التي انعكست سلباً عليهم على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية والحياتية
يمكن القول أن هناك العديد من الأسباب الكامنة وراء انتشار الجريمة في المخيمات الفلسطينية، منها ارتفاع مستوى الفقر وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانتشار آفات وظواهر وعادات غريبة عن تلك المخيمات، والانفلات الأمني وفوضى السلاح، إذ أن اللصوص على سبيل المثال يستفيدون في معظم الأوقات من كونهم عناصر تابعين للأجهزة الأمنية أو على معرفة وطيدة بأحد الضباط المتنفذين لتغطية سرقاتهم وتقاسم أرباحها، وخير دليل على ذلك ظاهرة التعفيش التي تعرض لها مخيمي اليرموك وحندرات، وسرقات أكبال الكهرباء والسيارات في مخيمات الحسينية وخان دنون وخان الشيح، وحالات الخطف في مخيم جرمانا والنيرب.
هذا وقد تصدرت سوريا قائمة الدول العربية في معدل الجريمة، وحلت تاسعة عالمياً، عام 2021، في حين احتلت العاصمة دمشق المرتبة الثانية بارتفاع معدل السرقة والجريمة بين العواصم الآسيوية، بعد كابول عاصمة أفغانستان، وذلك بحسب تقرير صادر عن موقع “Numbeo Crime Index” المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم.
النشالون داء جديد
لم يكد أهالي بعض المخيمات الفلسطينية ينسون حوادث السطو على منازلهم وسرقتها، حتى جاء النشالون ينكدون عيشهم ويفرغون جيوبهم، حيث يستغل هؤلاء النشالون الأماكن المزدحمة والساحات العامة وأسواق المدينة القديمة، وأماكن انتظار الحافلات، ليقوموا بنشل وسرقة المدنيين ما استطاعوا مثل الجوالات والجزادين وأخذ الاموال منها ثم رمي الأوراق الشخصية.
وبسبب “الفلتان الأمني” وانعدام الأمان، صار المارة في مدينة دمشق والمخيمات الفلسطينية يخشون تعرضهم للسلب في أي لحظة، وبات جميع الأشخاص خاصة منهم النساء يولون اهتماماً كبيراً لتأمين أنفسهم وما يحملونه من محافظ ونقود وهواتف نقالة من السرقة والنشل التي باتت منتشرة وبكثرة في الآونة الأخيرة.
هذا ويتعرض كل يوم عدد كبير من الأشخاص في دمشق والمخيمات الفلسطينية لمحاولات سرقة إما “بخفة اليد” في المناطق المزدحمة وضمن باصات النقل الداخلي، أو من خلال المواجهة المباشرة والتهديد بالسلاح أو رش مواد كيميائية مخدرة.
ظاهرة الزعران
يزداد يوماً بعد يوم بالمخيمات الفلسطينية في سورية انتشار ظاهرة الزعران، أولئك الشبان الذين يتخذون من مفارق الطرق والأماكن المهجورة مأوى لهم ويرتعون في الشوارع والأزقة، ولا يتركون راحة لنائم ولا أماناً لعابر السبيل.
ويقوم الزعران بأعمال تسلب أمان المجتمع وتجعله يعيش في توتر وقلق وخوف بشكل دائم، من تصرفاتهم اللاأخلاقية والطائشة كافتعال المشكلات لأسباب أقل ما يقال عنها بأنها تافهة، والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى إصابات خطيرة نتيجة استخدامهم السلاح الأبيض والعصي ورمي الحجارة والزجاج كما حصل في مخيم الحسينية للاجئين الفلسطينيين بريف دمشق منذ عدة أيام، حيث نشب شجار بين عدد من الشباب على مادة الحشيش، مما أدى إلى إصابة أحدهم بجروح خطيرة كادت تودي بحياته.
من جانبهم يخشى أهالي المخيمات الفلسطينية من استمرار انتشار هذه الظاهرة وتحول مخيماتهم لبؤرة مجرمين وعصابات منظمة، مطالبين الجهات الأمنية والمعنية بإيجاد حل جذري لهذه الظاهرة التي تشكل خطر كبير على حياتهم وحياة أطفالهم.
تزايد حالات الانتحار
أدت الحرب السورية المستمرة وما خلفتها من تبعات سلبية على كافة الصعد النفسية والاجتماعية والاقتصادية إلى جنوح بعض الشبان الفلسطينيين نحو إنهاء حياتهم بطريقة أو بأخرى.
وتتنوع الأسباب التي تدفع الشباب الفلسطيني في سورية نحو الانتحار، ويرجح الباحثون النفسيون عدة أسباب لإقدام المرء على إنهاء حياته بيده، أحد أهم الأسباب هو الاضطرابات النفسية فقد يؤدي حدوث الاكتئاب أو الانفصام أو الاضطراب المزاجي إلى الميل نحو إيذاء النفس ومحاولة إنهاء الحياة، وضعف الوازع الديني لدى النشء، والمشكلات الاجتماعية، المتمثلة بعجز الشباب عن تأمين معيشة لائقة لهم ولأسرهم ويأسهم في تأمين مستقبل آمن أو السفر خارج البلاد للحصول على حياة أفضل وحرمانهم من أبسط حقوقهم كبشر.
فقد سجلت في سورية وخارجها توثيق عشرات الحالات لفلسطينيين قاموا بقتل أنفسهم بشكل متعمد أو حاولوا فعل ذلك، منهم من نجح في ذلك، وبعضهم نجا بأعجوبة من الموت المحقق.