موقع فايز أبو عيد

“الحلم المكسور” قصة للكاتب فايز أبو عيد

في زوايا مخيمات اللجوء المظلمة، حيث تختنق الأمل في ظل الحرب واللجوء، يبقى الحلم الفلسطيني على قيد الحياة. رغم كل التحديات والآلام، يظل الفلسطيني صامدًا، يحمل في قلبه أمل العودة إلى وطنه، في كل يوم، يتجدد النداء: “العودة”، تلك الكلمة التي تسكن الروح وتمنح الفلسطيني القوة للاستمرار في مواجهة الخراب والهزيمة، حتى في أسوأ اللحظات، تبقى الأرض محفورة في القلب، ويدافع عنها حتى النفس الأخير.

الحلم المكسور

فايز أبو عيد

في زوايا المخيم المظلمة، حيث لا نور يضيء سوى خيوط الشمس القليلة التي تختبئ خلف السحب الثقيلة، يبدأ الفلسطيني يومه بكل ثقل الأرض التي يحملها في قلبه، هنا، بين الجدران المتصدعة التي ما زالت تحاول التماسك على الرغم من قسوة الزمن، يعيش الحلم الفلسطيني المكسور، ولا شيء يُضيء هذه الزوايا سوى ذكريات الوطن الذي ضاع بين العواصف، وغمضت عيناه على أمل العودة.

لم يكن الأمر كما كان يتوقع، فالحرب لم تترك شيئًا في الذاكرة سوى الفقد والموت، عندما بدأت أصوات القذائف تزلزل الأرض، كان الفلسطيني يقف في مفترق الطرق، بين الماضي والحاضر، ولا يدري إلى أين يذهب. الهروب من الموت كان حلاً، لكن الموت كان ينتظره في كل زاوية من زوايا الشتات. لقد أُجبر على ترك الوطن، لكن مع الرحيل ظن أنه سيجد السلام، لكنه اكتشف أن البعد عن الوطن كان شقاءً آخر، بل كان جحيمًا من نوعٍ آخر.

تسير الأيام ثقيلةً، تتساقط الذكريات كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف. الفلسطيني الذي ظل في مخيمات اللجوء يرى نفسه محاصرًا في دائرة لا تنتهي، فكلما حاول الخروج منها، وجد نفسه يعود إلى نقطة البداية. عذابات الشقاء وتحديات الحياة اليومية صارت مرارًا لا يطاق، لكن الألم الأكثر مرارة ليس في الفقر المدقع ولا في ساعات العمل الطويلة التي يبيع فيها جسده مقابل ثمنٍ بخس، بل في أن يكون جسده غريبًا في وطنه. غريب في قلبه، غريب في عينيه، حتى في أحلامه.

في كل صباح، ينهض الفلسطيني وكأنما النهار لا يحمل له سوى المزيد من الحطام. يواجه الجوع والفقر والعنصرية والذل، ويتلقى قسوة الكلمات التي تطعن في كيانه. في العمل، تزداد أيامه إرهاقًا. يشقى ليؤمن قوت يومه، ولكنه في المقابل يواجه كلمات قاسية من أولئك الذين يعتقدون أن وجوده هنا ليس إلا عبئًا. “فلسطيني؟” تسأله العيون وكأن هذه الكلمة قد اختصرّت كل شيء، وكأنها دلالة على الخطيئة التي لا يغفرها أحد.

وما أسوأ أن يكون هذا الحلم المكسور في قلبك يتجسد في قسوة الأيام، وأنت ترى جيرانك يسخرون منك، ويتهامسون بأحاديث لا تصلح لحديث البشر. “هل من حقك أن تملك شيئًا هنا؟”. كلمات تحترق في القلب، لكن الفلسطيني لا يستطيع الرد إلا بصمتٍ عميق، صمتٍ يشبه الموت. ثم يأتي الليل، حيث يسحب الجراح على مهل، وتنسحب الأيام ببطء، تمامًا مثلما يتسلل السكون إلى جسد ضعيف بعد عناء طويل.

أما عندما يتساقط المطر على الجدران المتهالكة في المخيم، فإن الفلسطيني يجد نفسه يقاوم رياح العاصفة التي لا ترحم، بينما يظل يقف مستنفرًا أمام سقفٍ يهدد بالسقوط في أي لحظة. الخيمة التي كانت تظنه ملاذًا يصبح سقفها أيضًا سجنًا. الشتاء ليس إلا صراعًا بين الأمل في النجاة والتسليم بالهزيمة. لكن، في كل مرة يراهن الفلسطيني على الحياة، يبتسم، ويرى الأمل يتجدد في أعين أطفال لا يعرفون سوى حب الأرض والحرية، رغم كل شيء.

وهكذا، يمر الزمن ثقيلًا، محملًا بالآلام، لكن الفلسطيني يظل صامدًا. الحكاية ليست في كونه لاجئًا في مخيم، بل في كونه حاملاً لقضيةٍ لا تموت، وقلبًا ينبض بالأمل، على الرغم من الجراح. فحتى في أسوأ اللحظات، تبقى الأرض هناك، محفورة في القلب، ويدافع عنها حتى النفس الأخير.

في كل يومٍ يمر، يتجدد النداء: “العودة”. تلك الكلمة التي تسكن الروح، وتمنح الفلسطيني القوة للاستمرار. لكن، كيف يعود في ظل هذا الخراب؟ كيف يعود وهو يرى أن الأمل أصبح مشوهًا، وأن الزمن قد غيّر ملامح الطريق؟ والجواب هو أنه رغم كل هذا، يبقى هناك شيء في الداخل لا يموت، ولا يزول.

البحث عن الأمل ليس ترفًا، بل هو حياة الفلسطيني الوحيدة. ففي مخيمات اللجوء، هناك من يعيش بين جدرانٍ تهدمها الرياح، وهناك من ينتظر أن يُقدّر، أن يُنصف، أن يُعطى فرصةً واحدة ليُثبت للعالم أن الحلم الفلسطيني لا يموت. حتى لو تمزق الجسد، واهتزت الأرض، يظل القلب قويًا كالجبل.

هل يمكن أن يُنسى الفلسطيني في غربته؟ نعم، قد يُنسى. لكن، في قلبه، هناك صوت يصرخ: “العودة قادمة”.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *