عروس العودة إيناس شريتح دماؤها في ذكرى النكسة أشعلت القناديل للوطن

فايز أبوعيد – دمشق

 29/2/2012

في لحظة مضت لتقرأ أنين المكان على شفاه صغيرة دافئة كحبة الكرز، لملمت ذكرياتها وحزنها المبعثر بين سّرة المشهد وعيون الضوء، صنعت منه جسداً آخر لترتديه وطناً، فانفجرت أغنية وخرجت له الأرض والسماء كفّين دافئين على حافة نعش. وحدها الواقفة على أصابع الشمس تتوضأ بفجر دموي رافعة طرحتها علماً أحمر لسكون المدن الراجفة. وحدها الخارجة من أثاث المكان تتحول إلى زهرة، إلى وطن وماء. وحدها الراقصة على إيقاع الشهادة الفاتحة السؤال على احتمالات المستحيل والصارخة ألف لا لعدو شرد أهل وطنها وطردهم.

إنها ابنة فلسطين وعروس العودة الشهيدة البطلة إيناس عبد الله شريتح. بنت الـ22 ربيعاً تولد سنة 1989م. البلدة  (يطا) ـ الخليل. لاجئة فلسطينية مقيمة في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سورية. طالبة في جامعة دمشق ـ كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية. هي زهرة من زهرات فلسطين. كانت منذ صغرها متعلقة بوطنها الأم بما لا يوصف، حتى إنها طلبت وهي في صف الأول الابتدائي من عمتها داخل الأراضي المحتلة أن تجلب لها ثوباً من فلسطين لترتديه وتتذكر به وطنها. كانت دائمة السؤال عن كيفية خروج أهلها من فلسطين، عن الوقت الذي يمكن فيه أن تعود إليها. جُبلت على محبة الوطن والشهادة في سبيله، فكان دينها وديدنها. هي صديقة وفية بكل ما للكلمة من معنى، عطوفة، حنونة. ضحكتها لا تفارق مبسمها. طلبت الشهادة، فنالتها على أعتاب فلسطين والجولان يوم 5 حزيران 2011.

حكمتها في الحياة “كثرة الكلام تُثقل التابوت، وما لم نستطع أن نقوله في حياتنا يصبح ثقيلاً في نعوشنا”. من هذه الحكمة والمقولة انطلقت لتلبي نداء فلسطين، وذلك عندما سمعت وشاهدت على شاشات التلفاز ما يجري من مجزرة يرتكبها الكيان الصهيوني بحق أبناء شعبها الفلسطيني على أرض الجولان، الذين لا ذنب لهم سوى المطالبة بحقهم بالعودة إلى ديارهم ووطنهم. إيناس التي لم تشارك هؤلاء الشباب فرحتهم ونشوة النصر التي حققوها يوم 2011/5/15 لدى اختراقهم للأسلاك الشائكة وعبورهم إلى مشارف الوطن، انتفضت وكانت تتحرق وتذوب ألماً من هذه المناظر وتتمنى أن تشاركهم وتكون معهم؛ فمنذ ذاك الوقت بدأت مشاعرها الوطنية والثورية تتفجر وتخرج من قمقمها لتعلن ولادة فتاة جديدة همها الوحيد العودة إلى فلسطين، متناسية ما حققته من إنجازات في هذه الحياة. بدأت إيناس تتهيأ ليوم النكسة التي دعا إليها الشباب الفلسطيني الذين بدأوا بالإعداد لإحياء ذكرى نكسة حزيران  بعد أن شيعوا شهداء مسيرة العودة الأولى إلى مثواهم الأخير. كان الهدف الأول والأخير من هذه الاستعدادات اجتياز الحدود والعودة هذه المرة إلى قلب فلسطين، لا إلى مجدل شمس. هنا، كانت إيناس حاضرة ومصممة على نيل الشهادة؛ فقد أخبرت رفيقاتها وأخوتها بأنها ذاهبة ولن تعود، وأنها على موعد مع الشهادة. في البداية لم تتحقق أمنيتها لأن الذهاب إلى الحدود قد ألغي بقرار من جميع الفصائل الفلسطينية.

يوم الذكرى الـ44 للنكسة، صادف أول يوم من أيام الامتحانات لديها. سمعت إيناس بأن هناك من سبقها إلى أرض الجولان، وتواردت الأنباء عن عدد من الشهداء والجرحى على تخوم الجولان، فدهمها الغضب؛ لأن أحداً لم يخبرها، فأسرعت لنصرة أبناء شعبها وخرجت من المنزل مسرعة لتستقل الحافلة المتجهة إلى الجولان المحتل. لم تعد تكترث بتقديم الامتحان؛ لأن الامتحان يعوض، لكن الذهاب لتنسّم رائحة فلسطين لا يعوَّض، على حد تعبيرها.

في الطريق إلى الجولان كانت إيناس تهتف وتنشد الأغاني الوطنية وترفع علم فلسطين. خرجت في هذا اليوم عن هدوئها المعتاد؛ فعندما وصلت إلى مشارف الجولان تنسمت إيناس رائحة فلسطين، رائحة وطن لم تره في عينيها، بل عشقته في قلبها، وأصبح الهواء الذي تتنسمه هو هواء بيارات فلسطين وبرتقالها، فاندفعت نحو رفاقها الذين لم يكونوا على مبعدة من رصاص جيش العدو الصهيوني، وهناك أبت إلا أن تسقي الماء للعطاشى وتساعد في نقل الجرحى وإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعها هذا الكيان للحؤول دون وصول هؤلاء الشباب إلى مبتغاهم في اقتحام الحدود.

أما الأم التي كانت مع ابنتها في الجولان، فكان يمر من أمامها الجرحى والشهداء. كان قلبها ينفطر عليهم، لكنها لم تكن تدري أن ابنتها ستكون واحدة من هؤلاء الشهداء. لذلك، جاء وقع نبأ استشهاد إيناس كالصاعقة عليها، ولم تصدق الخبر في البداية. كانت شاردة الذهن لم تستوعب ما يجري حولها، لكنها بعد برهة حمدت الله الذي منّ على ابنتها بهذه الشهادة، وتمنت أن تكون معها وتنال شرف الشهادة، بعد أن شعرت بأن السماء والأرض تحتفيان باستشهادها، وأن دمها الطاهر قدمته زيتاً لقناديل الحرية ومداداً لتكتب به اسمها في سجل الخالدات، وذلك من خلال إصرارها على أن يرفرف علم بلادها عالياً مهما كان الثمن غالياً، وأن توصل رسالة للعالم أجمع مفادها أن إرادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على تحرير أرضه والعودة إليها أقوى من سلاحكم وطغيانكم وجبروتكم.

 لم تستطع أم إيناس أن تحبس دموعها عندما تحدثت عن ابنتها، لكنها في الوقت نفسه كانت ذات عزيمة قوية، وقالت عند سؤالها عن شعورها عندما سمعت بنبأ استشهاده ابنتها: “أنا فخورة باستشهاد إيناس، وإن أصبت في البداية بحالة من الصدمة، إلا أنني احتسبتها قرباناً في سبيل الوطن وتحرير فلسطين، التي لا يمكن أن نتنازل عن شبر واحد منها؛ فحب فلسطين نرضعه لأولادنا مع الحليب، ونورثه لهم ولأولادهم كما ورثناه من أجدادنا وآبائنا. لذلك، لن أمانع في أن يذهب أولادي مرة أخرى إلى حدود الوطن والاستشهاد في سبيله، وإن فكرت ولو لحظة في منعهم فأنا لست فلسطينية ولا أستحق أن أنتمي إلى هذه الأرض المباركة”.

اختلف معنى الوطن عند إيناس شريتح عن غيرها من بنات جيلها؛ فالوطن لديها هو الحبيب الأول والأخير، وهو الذي يحتل فراغات شرايينها ويدفع بها نحو الحياة فتحيا، وتقدم له دمها لتسقي ترابه. فإيناس حالها حال المرأة الفلسطينية، جذورها ضاربة عميقاً في بيارات الليمون والبرتقال وحدائق فلسطين والأرض الطيبة التي لم يستطع الكيان الصهيوني بكل جبروته وقوته اجتثاثها وإلغاء هويتها الوطنية الفلسطينية، وحقها في الحلم بالخلاص والحرية والعودة إلى وطنها. أخيراً، لا يسعنا إلا أن نردد تلك الأبيات الرائعة من قصيدة “الأرض” للشاعر محمود درويش التي تقول: “خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل”

الرابط المختصر: https://fayzaboeed.com/iw0m

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top