فايز أبو عيد
الشوق ـ الحنين ـ عشق الوطن ـ الغربة، هي عناوين لا يمكنك تجاوزها وأنت تحاور من أدمن حب فلسطين حتى باتت تعشّش في ثنايا شرايينه. هي خبزه اليومي، محال أن يمر يوم من دون أن يبكي على ضياع الأرض والوطن. إنه اللاجئ الفلسطيني ابن الزنغرية خميس جرادات (أبو غصاب)، من مواليد عام 1933 الذي خرج منها مكرهاً، ولكن قلبه بقي معلقاً بها. أبو غصاب كان لنا حديث معه عن شوقه وحنينه للعودة إلى الوطن، بعد غربة دامت أكثر من أربعة وستين عاماً. أصبح هذا الفتى شيخاً، لكن صورة وطنه لا تزال ماثلة أمامه، وحلمه بالعودة إلى فلسطين ما فتئ يكبر يوماً بعد يوم.
الرحيل
حب الإنسان لوطنه لا يعادله شيء في الوجود، وقد لاحظت ذلك من خلال حديثك عن يوم هجرتك من فلسطين، كنت تتمنى الموت قبل أن تجبر على مغادرتها، حبذا لو تحدثنا عن يوم رحيلك عن أرض الوطن.
لا أدري ماذا أقول، فلساني عاجز عن وصف تلك المشاعر والأحاسيس التي راودتني في تلك اللحظات؛ فعندما غادرت فلسطين، غادرتها جسداً بلا روح؛ لأن روحي تركتها تهيم في محراب عشقها. خرجت منها وأنا لا أعرف بأي اتجاه أسير. كنت بين الفينة والفينة أنظر خلفي لأرى فلسطين تغيب عني شيئاً شيئاً. في ذلك الوقت خالجني إحساس بالمرارة والغربة وشعور بالذل والهوان، كان الموت عندي أهون من أن أخرج من أرض الوطن ذليلاً مكسور الجناح، لقد كان يوم خروجي من فلسطين من أقسى أيام حياتي على الإطلاق، ما زالت صورته تلوح أمامي ولا تفارق خيالي.
الغربة
الإنسان من دون وطن وعائلة ينتمي إليها، لا يمكن أن يحيا بسلام وأمان، فهل تحدثنا عن غربتك خارج وطنك؟
من لا وطن له لا حياة له، بهذه العبارة يمكن أن ألخص لك غربتي خارج وطني. دائماً يشعر الإنسان خارج وطنه بأنه مسلوب الحرية يعيش على الذكريات والشوق والحنين، هذا الحنين إلى الوطن يبقى مثل نار متقدة داخل الإنسان، لا يطفئها إلا بعودته إلى وطنه وبيته وأرضه.
فأنا، بعد مرور أربعة وستين عاماً على مأساتي التي تمثلت بخروجي من فلسطين، لا أعرف معنى الاستقرار، لأن استقراري الوحيد هو في عودتي إلى أرض الوطن، وغير ذلك أعدّه ضرباً من المحال.
واأسفاه على كل ورقة زيتون لم ترها عيني قبل خروجي من وطني، وعلى كل عشبة، وحجر، وكل شجرة لم أتلمسها بيدي قبل مغادرتي فلسطين! فعندما أعود، وأقول أعود رغم كبر سني؛ لأن الأمل يراودني بأن العودة قريبة، فإنني سأعانق جميع الأشياء فيها؛ لأنها جزء من دمي وكياني وحياتي.
الحديث عن الوطن له نكهته الخاصة، والحديث عن هجرة الوطن حديث له طعم أشد مرارة من طعم الحنظل؛ لأن الإنسان عندما يتذكر وطنه يتذكره بكل ما فيه من حلاوة ومرارة، يتذكر وديانه وسهولة وجباله، وهذه الذكريات لا يمكن محوها من الذاكرة. فمن هنا يأتي طعم المرارة والعلقم.
النهوض مرة أخرى
العزيمة والإصرار هما الدافعان إلى تحمل أية محنة مهما كانت، وعلى هذا الأساس كان الشعب الفلسطيني يقاتل عدوه، ولكن هذا القتال في البداية لم يكن منظماً، وإنما جاء بدافع حب الوطن، فهلا تحدثنا عن بدايات الثورة الفلسطينية.
العواطف الجياشة، حب الوطن والحماسة هي الدوافع الأساسية التي كانت تحرك الشبان الفلسطينيين لقتال العدو الصهيوني. رغم الأسلحة الخفيفة وغير المتطورة التي كنا نحملها، إلا أننا كنا نقاتل عن جيش كامل، ويكفي أننا كنا نحمل في داخلنا حب فلسطين. وهذه العزيمة والإصرار على القتال لم يكونا ليحميانا من اختراقات العدو الصهيوني لصفوفنا؛ لأننا كنا نقاتل بالحماسة لا بالتنظيم. فكل جماعة كانت تقاتل العدو وحدها تريد أن تخرجه من أرض فلسطين. بهذه الروح والعواطف كان الشاب الفلسطيني قد بدأ ثورته، وهذه الثورة حققت في ما بعد له عدة مكاسب، وكان أولها اعتراف العالم بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
الغربة والجيل الجديد
برأيك، ما مدى ارتباط الأجيال الجديدة، التي ولدت خارج فلسطين بأرضها؟
إن ارتباط الأجيال الجديدة بوطنها يقع على عاتق الأهالي؛ لأن الأهل وحدهم قادرون على غرس حب الوطن في قلب الطفل منذ ولادته، وبدورهم يعلمونه القيم العربية الأصيلة والروح الثائرة على العدو.
على هذا الأساس، كان للتوعية المنظمة دور مهم في تحديد اتجاهات الشباب وميولهم؛ فأنا وصلت إلى درجة أعتقدت فيها أن الشباب الفلسطيني في هذا العصر لا يعرف ماذا يريد، وأنه قد ابتعد تدريجاً عن قضاياه الوطنية، وعزوت السبب في ذلك إلى تلك الطفرة التقنية والتكنولوجية التي باتت سمة العصر. لكن هذا الاعتقاد زال تماماً بعد أن شاهدت بأم عيني ماذا فعل هؤلاء الشباب في مسيرة العودة الأولى والثانية التي قدموا فيها أرواحهم رخيصة من أجل العودة إلى تراب فلسطين. وأنا أقول لك بكل ثقة بأننا بتنا للعودة أقرب من أي وقت مضى، لأننا أمام جيل أثبت أنه متمسك بحقه في العودة إلى فلسطين مهما كلفه ذلك من تضحيات.
الداخل والخارج
في هذا الإطار، ما هو التعاون الذي يمكن أن يكون بين شعبنا في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، لنتمكن من طرد الكيان الصهيوني؟
إن مقولة شعب الداخل وشعب الخارج هذه مقولة غير مقبولة؛ لأننا شعب واحد مهما اختلفت الأوطان التي نعيش فيها حالياً، فالجميع يحمل المصير نفسه، وينتمي إلى فلسطين.
فهذه العبارة قيلت حتى يفصلوا القضية عن محورها الأساسي، أما في مجال التعاون مع أهلنا الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة والذين يعيشون خارجها، فيجب على كل فرد أن يشارك ويسهم ويقدم روحه في سبيل تحرير هذه الأرض المقدسة، وهذه التضحية لا تأتي إلا من طريق التنسيق والتعاون المنظم ما بين الداخل والخارج. فالمطلوب من أبناء الشعب الفلسطيني الآن التكاتف والتلاحم ونبذ الخلافات وتوجيه بوصلتهم نحو كيفية العمل على مقاومة هذا الغاصب بكل الطرق والأساليب، لتعريته أمام العالم ومن ثم طرده من فلسطين.
حلم العودة
يبدو أن فلسطين بالنسبة إليك هي امتداد لأحلامك وآمالك التي هي جزء من آمال الشعب الفلسطيني وأحلامه، وهذا ما ظهر جلياً من خلال مشاركتك في مسيرة العودة الأولى والثانية. فما هي كلمتك للحالمين بالعودة إلى أرض الوطن؟
فلسطين تعيش في عقلي ووجداني. لم أنسها يوماً قط؛ فمن عاش فيها يعرف ما تعنيه كلماتي. أتمنى أن أعود إليها، وأعيش ولو في ظل حجر من أحجار قريتي الزنغرية. أتمنى أن ألمس تراب فلسطين وأتنسم هواءها. ففلسطين تسكن بداخلي وتشكل لدي هاجساً دائماً؛ فهي حاضرة في كل أحاديثي وحركاتي وتصرفاتي. لذلك، عندما علمت بأن هناك مسيرة للزحف إلى حدود فلسطين لملمت بعض أغراضي وأشيائي وحملت مفتاح بيتي وكواشين أرضنا في الزنغرية، وذهبت رغم مرضي مع الزاحفين للمشاركة في مسيرة العودة الأولى يوم 2011/5/15 ودخلت مجدل شمس. والثانية يوم 2011/6/5 وكلي أمل بأن أعود إليها. وعندما وصلنا إلى أرض الجولان تنسمت هواء فلسطين، وعادت بي الذكريات إلى أجمل أيام عشتها فيها، ولم أدر بنفسي إلا وأنا مع هؤلاء الشباب نقتحم الحدود ونقتلع السياج الشائك ونتصدى لرصاصات هذا الغاصب اللعين بصدورنا، وكأننا بعثنا من الرماد المحترق عنقاء جديدة يجمعنا حب فلسطين ويوحدنا أمل العودة إليها، وكأن لسان حالنا يقول للعالم إن من كان له أذنان فليسمع، ومن له عينان فليرَ؛ فنحن عن حق العودة لن نتخلى، وبكل ذرة من تراب فلسطين متمسكون. أخيراً أقول إن من عاش في فلسطين وتنسم عبق أرضها وبياراتها،لا يمكن أن ينساها أبداً؛ فأنا رغم مرور أربع وستين سنة على اغتصاب فلسطين، عندي يقين تام بأن فلسطين ستعود إلينا، ولهذا تركت وصيتي لأولادي وأحفادي بأن أدفن في تراب فلسطين أو أن ينقلوا عظامي إليها ويدفنوها في قرية الزنغرية عندما تتحرر