“نكبة اليرموك ونكبتي أرويهما كما عشتهما”

فايز أبو عيد

كان أشبه بالحلم عندما نظرت من نافذة البيت ــ الذي اضطررت لأن ألجئ  إليه أنا وأسرتي، بعد أن فررنا من مكان سكني الأصلي في شارع فلسطين القريب من بلدية اليرموك وحي التضامن ، بسبب اندلاع المعارك  والاشتباكات وسقوط  القذائف على تلك المنطقة، كنا في خطر دائم إلا أننا بقينا في منزلنا، إلى أن سقطت قذيفة على سطح المنزل فقررنا تركه واللجوء إلى منزل أخر داخل مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق ــ فرأيت جموع غفيرة من أهالي اليرموك تحمل حقائبها وأغراضها الشخصية وتتجه للخروج من المخيم جراء قصف الطيران الحربي يوم 16/ 12 / 2012، لمدرسة الفالوجة وجامع عبد القادر الحسيني بالصواريخ، والذي نجم عنه سقوط أكثر من 150 شهيداً وأكثر من 250 جريحاً، هرعت إلى مكان القصف وهالني ما شاهدته من جثث ملقاة على الأرض ولحم متطاير ومتناثر على الأرض والجدران، لن ولم أنسى أم صديقي التي كانت في حالة ضياع وهي تنظر إلى جثة ولدها الذي تحبه أكثر من نفسها.

عدت يومها إلى المنزل ومشاعر الغضب تجتاحني، والألم يعتصر قلبي، في صباح اليوم التالي استيقظت على أصوات عالية وضجيج، فذهبت لاستطلع الأمر وإذ بجحافل من أهالي المخيم يغادرونه، منهم من يحمل والده على ظهره، ومنهم من يجر والدته المريضة أمامه، نساء أطفال يبكون، حالة من الرعب بادية على محياهم، صدمة وذهول اصاباني، وبت في حيرة من أمري، ماذا أفعل؟ وكيف أتصرف؟ أولادي وزوجتي خلفي ينظرون إلى الناس ويرمقونني  بعيون خائفة، أيقظني صوت ابنتي ذات الثماني سنوات، بابا أنا خائفة،  لا أريد أن أموت؟ وأجهشت بالبكاء، عندها حبست دمعتي وقررت مغادرة اليرموك مع المغادرين، إلى أين لا ندري المهم أن نغادر.

حزمنا حقائبنا على عجل ولحقنا بركب المغادرين، إلا أننا وفي طريقنا لم نسلم من رصاص وحقد الغادرين الذين فتحوا فوهات بنادقهم على المهجرين، حيث أصابت رصاصة قناص  امرأة لم تكن تبعد عنا سوى بضع خطوات، صراخها ودمائها التي سالت كانت كفيلة أن تبعث مزيداً من الخوف والرعب في نفوس جميع من كان بالقرب منها، تعالت صرخات النساء والأطفال، استطعنا بعد ذلك الخروج من المخيم إلى حي الزاهرة الدمشقي، وبعدها تمكنا من أن نستقل سيارة أجرة وتوجهنا إلى مساكن برزة بدمشق طلباً للأمن والأمان، تزامن وصولنا إلى بيت أحد أقاربنا في يوم كانت تتساقط فيه الثلوج، ونظراً لعددنا الكبير اضطررنا إلى أن نقيم في شقة غير مكسية وليس فيها أي وسيلة للتدفئة، هذا إضافة إلى الماء الذي كان يدلف علينا من سقفها ، ليلة عشتها أنا وذويي من أصعب الليالي برد قارس وماء ينساب من سقف الغرفة ، لم أنم ليلتها لأن ذاكرتي عادت بي إلى ما كنت أقرأ عنه من ألم ومأساة وعناء كابده أهلنا عندما هجروا من أراضيهم عام 1948، إذاً هي النكبة الثانية التي نمر بها هو نفس الألم والمعاناة نعيشها بعد 67 عاماً، هو نفس مذاق العلقم الذي تجرعه أباءنا وأجدادنا.

بعد مضي حوالي الشهرين على تواجدنا في منطقة مساكن برزة، تدهور الوضع  الأمني فيها جراء الاشتباكات التي حدثت بين الجيش النظامي، وقوات المعارضة السورية المسلحة في منطقة برزة البلد، فكان لبرزة نصيب من القذائف والتفجيرات، فقد انفجرت في يوم واحد أربع سيارات مفخخة في محيط المنزل الذي أقيم فيه، حالة من الهلع والخوف سيطرت علينا وعلت حينها صرخات  زوجتي وأولادي وأولاد أخي، صرخاتهم المدوية التي لا يزال صداها يتردد في آذني إلى الآن هي السبب التي جعلني أحزم أمري وأقرر مغادرة سورية إلى لبنان الأقرب إلى سورية، رغم علمي أنني سأكابد فيها عناء الحياة، ولكنني كنت أنشد الأمن والاطمئنان لعائلتي.

لقد عشنا النكبة مرة أخرى بكل تفاصيلها، إلا أن هذه النكبة هي الأخطر والأصعب على الإطلاق من نكبة أهلنا عام 1948، لأن العدو كان معروف ولا يرحم، أما اليوم فالعدو هو نفسه الأخ والصديق، وطعنة الأخ والصديق تكون موجعة ومؤلمة أكثر.

الرابط المختصر: https://fayzaboeed.com/i4sr

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top